فتاوى لتخريب المجتمع لمصلحة من ؟!

 كثُر الحديث عمّا تبجح به القاضي الشرعي الأول من آراء وتصريحات، سواء من حيث رفضه بعض الأعمال التي تقوم بها النساء والشّابات السوريات(والتي لا تليق بالمجتمع السوري- بحسب زعمه)، أو من حيث تشجيعه على تعدد الزوجات(كحلٍ أنسب من وجهة نظره لمسألة العنوسة والترمّل الناتجين عن الحرب الدائرة في البلاد).. وقد تناولت الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي والعديد من الجلسات والمنتديات كل ما تكرم به سيادته، وصار من المعلوم رد الفعل الجمعي الرافض والمُستنكر لتلك الآراء والتصريحات التي- مع الاحترام لمكانته- لا يقبلها عقل ولا منطق.

فمن البديهي وبحكم الوضع الاقتصادي المُعاش في السنوات الأخيرة أن تمتهن المرأة ما كانت ترفضه سابقاً، لكونها باتت المسؤول الوحيد عن إعالة العديد من الأفواه نظراً لغياب الرجل المتعدد الأسباب بمختلف صفاته وقرابته بها، فأن تعمل بشرفٍ أسمى وأنبل من أن تمدَّ يدها بقصد التسوّل، أو أن تسلك مسلكيات لا أخلاقية بغية سدّ الرمق لا أكثر، هذا فيما يخص العمل، أمّا أن يُطرح حل لمسألة العنوسة على هذا الشكل حتى من دون التجرؤ على نقاش وسبر أسبابها، فهذا ما يثير الغيظ والاستهجان الشديدين، وبالتالي الرفض القاطع.

أولاً- إن التسمية بحد ذاتها تحمل من الإهانة الكثير، حتى أنها باتت في السنوات الأخيرة مرفوضة نهائياً.

ثانياً- أسباب تأخر سن الزواج متعددة ومتنوعة، منها أن الفتاة نفسها باتت ترى في إكمال تعليمها ونيل الشهادات ما يصونها ويقيها غدرات الزمن، إضافةً إلى طموحها ورغبتها في خوض غمار العمل والدخول في العملية الإنتاجية المجتمعية برمتها، ولم تعد ترَ في الزواج الملاذ الأخير لحياتها، بل إن وعيها لإنسانيتها ولكيانها جعلها تسعى لتطوير نفسها وقدراتها في مختلف الصعد، وبالتالي بات التأخر في الزواج بالنسبة لها أمراً طبيعياً لا بل عادياً..

هذا من جانب الفتاة، أما من جانب الشاب أو الرجل، فأيضاً بات يبحث عن الزوجة التي بمقدورها أن تسانده في تأسيس حياتهما المشتركة، والتي بالضرورة هي المتعلمة والعاملة صاحبة القرار والقادرة على تحمل مختلف مسؤوليات الحياة معه.

ثالثاً- ألم ينتبه سيادة القاضي الموقر إلى أن فتواه تلك ستؤثر سلباً وتؤسس لشرخٍ كبيرٍ بين شرائح المجتمع وأطيافه ومكوناته؟ فمجتمعنا ليس ذا صبغة دينية واحدة، وهذا أحد أوجه تنور مجتمعنا واختلافه عن غيره(أوليس هذا ما كان يتم التفاخر به؟)، فالطوائف المسيحية مثلاً ليس في تشريعها تعدد للزوجات، وغيرها من الطوائف المسلمة الأخرى ترفض رفضاً قاطعاً الجمع بين زوجتين، فحين يتقدم القاضي الشرعي الأول بمثل هذه الفتاوى ويعلنها على الملأ، يكون قد ساهم في زيادة التفريق والتبعثر والفصل بين تلك الشرائح، فأن تسمح بأمرٍ ما لأحد المكونات وتمنعه عن الآخر فمعناه أنك تسعى متعمداً للمزيد من الشرخ بينهما، أو أنك تريد ممن منع عنه ذاك الأمر أن ينتفض على ما ترعرع عليه وبالتالي على تشريعه، وفي كلتا الحالتين النتيجة سيئة بالمطلق بل ومدمرة، فإمّا الكراهية والحقد بين الشرائح تجاه بعضها، أو الانقلاب على بيئة برمتها…

فهل أنهى سيادة القاضي كل واجباته حتى تفرغ مؤخراً لمثل هذه التُرّهات؟ أم أنه بات لزاماً عليه إصدار الفتاوى كيفما اتفق والمهم إصدارها بغض النظر عن نتائجها وما ستخلفه من كوارث على المجتمع؟ ولمصلحة من يصب كل هذا في مثل هذا الوقت العصيب الذي نمر به جميعنا، فالموت لم يفرق بين مسلمٍ ومسيحي، والدمار وتشتت الأسر لم يكن معنياً بفئةٍ دون غيرها، فهل حلولكم معنيةٌ بما لم يكن الموت والحرب معنيين به؟

العدد 1107 - 22/5/2024