تنويعات على شرفة الصباح

يقول الصباح للنائمين: انفضوا الكسل المعشش في تاريخ ذاكراتكم.. فحرارة الصيف عنوان يؤذي قلوبكم.. انهضوا وانزعوا مسامير الأمان من قنابل صبركم، ولا تقتلوا ما بقي من ياسمين الحب بينكم!

يتقزَّم التفاؤل بعد خطوة واحدة لألوف الأميال، وقلبي يكاد يهوي ويمشي أمامي، فأزحف بلا قلب على ركبتين مهشمتين، ولم أجد من يسعفني إلى أقرب مشفى..!

وفي كل صباح وأنا أبحث عن حافلة ومقعد يريحني من الانتظار الطويل، أبدأ بتلاوة قائمة الذاهبين إلى أعمالهم وأتفقّد أسرارهم المختبئة في بطون أفكارهم، وأجمع أعدادهم التي تزداد وتزداد كل دقيقة، وأنا أرتجل مفردات الكلام وأتلوها أمام نفسي الكابية التي لم ترتوِ بعد من ندى الصباح..

تبدأ التنويعات تنزل من شرفة الصباح وتستقرّ على شرفات أخرى، تهتزّ ويتناثر بعضها بعد أن تخترقها أصوات القذائف.. ولم ينس سائق الحافلة شخصاً يبحث في جيوبه عن أجرة الركوب.. ويمدّ يده إلى الخلف (يفرط ) الـ 500 ليرة لاسترداد خمس ليرات من عجوز.. ويزيد خمساً أخرى بحجة أنه أضاف موقفاً إلى سجّل البلدية.. ويدفع المواطن وينسى أن قلبه يشتعل ولم يبقَ منه إلاَّ بقايا حب وبعض الفتات من نبضات شاردات.

ألهث وتتقطّع أنفاسي في قفص روحي وأنا أصعد سُلَّم العبور إلى الجهة الأخرى.. وألتفت إلى امرأتين في نهاية الدرج الصاعد، وبداية الدرج النازل إلى الشارع.. امرأتين تتربعان على الحديد تحتضن كل واحدة طفلاً / طفلة وتصرخ موالاً من حنجرة جريحة وتلحّن أقوالاً مشفوعة بالعطف والإذلال!

أسمع لغة ناعمة، لطيفة، مرتّبة، مستعطفة دون حاشية وزخرفة، مترافقة مع مسحة حزن على وجه شاب أنيق، يرتدي قميصاً نظيفاً وسروالاً مكوياً وحذاء لامعاً.. أنظر إليه وأتفقّد ثيابي وحذائي أيضاً! وصبية في سن المراهقة تقذف الابتسامات هنا وهناك وتوزعها على هذا الشخص أو ذاك دون حساب.. أدرك أنها لا تعرف التنجيم أو التبصير، وأن كفاً نظيفة بكّرتْ في صناعة تجاعيدها من قلة النقود، وحفرت خطوطاً ملونة بالأمل، وحلماً بدفن العَوَز في مقبرة الغرباء…!

تنويعات تزحف مثل جيوش النمل على وجوه الناس في الطرقات وعلى الأرصفة.. فهذا رجل أعرفه يتجاهلني حين أمرُّ بجانبه، وهو يتربَّع على الرصيف يحمل (بسكوتة) ويمد يده مستعطفاً المارة.. وعلى الرصيف الآخر عجوز يبدو أنه قادم يبحث عن عمل أو نازح من الريف البعيد وآثار الجفاف تغطي ملامحه السمراء، وامرأة أربعينية تحمل وَصْفة طبية..  ورجل مسنّ أكل الدهر منه عقوداً وشرب كؤوساً من الصبر يرتدي أسمالاً، ويتَّكئ على عكازة لا لون لها ولا تاريخ.. يقف عند إشارات المرور وقرب الحواجز.. ربما يحنّ عليه أحد أو تمطر عاطفة امرأة من غيمة الحب بعض الليرات.

ظلُّ قلبي ينزف موشحات الألم، ولم يعد يميز بين تنويعات الصباح.. وذبلت أفنان الفرح وتساقطت على اليباس، وأنا أتفرّج على الأحذية التي تدوسها، وأسمع حفيف موسيقا كمن يطلب النجدة!

وفي زمن الموت والظلمة وارتفاع سعر ظرف (السيتامول) سبعة أضعاف، وراتب العامل لا يكفي أسرته عشرة أيام.. وكثيرون جفف العطش شفاههم يبحثون بصبر وجوع عن الماء والخبز وانتظار عودة التيار الكهربائي..! ويصفق الأطفال بشوق  لرؤية غرفهم تشعُّ بالأنوار.. إنها.. تنويعات محمَّلة بمرارة ما يجري في أرضنا وقرانا ومدننا منذ سنوات.. ويبدو أن انتظار السلام ولو كان مغلّفاً بالسيليكون يظلُّ حلماً مهاجراً، لكنّه سيعود في يوم ما.. عندئذ نستعيد أجمل التنويعات على شرفة الصباح..!

العدد 1105 - 01/5/2024