دلو ثلج آخر!

للثلوج في أدبيات الحرب الكثير من الاحالات التي تأخذنا إلى روائع بعينها ومنها رائعة يوري بونداريف (الثلج الحار) أو رائعة أورهان باموق (ثلج) أو غيرها من الروايات في غير فضاء مثل (ثلج الصيف) رائعة نبيل سليمان وهكذا، لكن هذه المرة لن يتوقف الأمر على الاحالة للروايات وما أكثر ثلوجها سيما التي تأتي في الصيف أو منتصف الليل، لتشكل في مجازاتها مفارقة لما نألف ربما ذلك هو دأب الرواية والإبداع في المغايرة والإدهاش والاتكاء على لحظة ما في الذاكرة لإنعاشها أو إحيائها.

لكن ما يحدث في العالم اليوم من تلك الحادثة الطريفة إذ يدلقون دلاء الثلوج على رؤوسهم في لحظة تاريخية ومنهم فنانون وراقصون ورياضيون وربما عاطلون عن العمل من ارتأوا تلوين لحظاتهم الانسانية وتوسل اعجاب الآخرين، الأمر الذي ذهب غير مذهب وانزاح عن مقاصد بعينها، كان هدف من أطلق أول دلو ثلج أمام العالم جمع تبرعات لأمراض مستعصية أو مزمنة، لكن العالم المترف ذهب أبعد من ذلك ليجعل منها طقساً كرنفالياً من أجل صورة يعوضون بها عن ايقاع يومياتهم الخاسرة، ثم تعقبها رعشة فضحكة فصمت وأصبحت المعادلة على هذا النحو: دلو فابتسامة فرعشة فصرخة فنسيان…. أُطفأت الكاميرا وذهب الجميع مردداً آهٍ ما أحلى دلو الثلج سيما في هذا الحر المجنون، لكن دلو ثلج عابر لن يطفئ حر العالم كله وحر حروبه الأكثر جنوناً في تاريخ البشرية والإنسانية قاطبة، والمفارقة أن الثلج يذوب سريعاً ولا ينتظر وقتاً كبيراً حتى يبان (المرج) وما أكثر المروج البائنة التي تعج بالمهزلة وبالمناسبة إن المهزلة هي الأخت الشقيقة للفضيحة ومن ذات الأب والأم، مروج في عرائها المسفوح لم تقو على ذوبان الثلوج الكثيرة بفعل كثافة الدلاء المسكوبة فوقها على أن ترتق عراء الأرواح، فالعالم المجنون قد أوجد لذاته عقلاً جديداً، ليس أقل جنوناً لكنه جنون من نوع آخر، جنون تشاركي لم يعد فردياً على الأرجح، ما يحاكي مثلاً طريفاً مازلنا نردده (إذا جُن ربعك فعقلك لا يفيدك)!.

هو جنون أبيض من يرسم ايقاع العالم الآن وللحظة لا أحد يعرف على وجه الاطلاق متى ستنتهي، لكن العالم يعرف لحظة اطلاقها حينما امتزج الثلج بالجنون، وراحت أدبيات الحرب تعكس لظى المعارك لتقول بأنه ثلج حار، فكيف اجتمع الضدان هنا، لا نستبطن في واقع الحال ثنائيات الحرب والسلام، اليأس والأمل اللذان خُلقا من ضلع واحد، وحملهما رحم واحد، لكننا ونحن نقبض على ثلج وقتنا لا جمرته فحسب، نحاول اطفاء حرائق الأجساد والعقول والأرواح ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وكم نحاول أن يقبض ثلجنا على وقته، فلا دلاء تكفي لتُعلن الحرائق نهايات مؤكدة لما استعر في العالم الآخر من ضروب جنون طليقة نتشاركها طواعية بتواطؤ محسوب ما بين خصر راقص، وصرخات مكتومة تتوسل الضحك في آخر الليل أو سواه، وما بين عقل خفّ ما فيه ككائن ستُحتمل خفته، وما بين عدسات ليست محايدة هي الأخرى، لتلتقط ما شاء المصورون من لحظات يذهب فيها العالم المتعدد اللغات والأعراق والأمزجة، ليصنعوا مزاجاً جديداً لكرة مازالت تدور على رحى الحرب، في مكان آخر هو (دلو الركام) من يسكبه مغنٍ على رأسه كطريقة احتجاج وبما يوازي دلاء الثلوج المتضامنة والمتوسلة جمع تبرعاتٍ لمرض هنا أو هناك، فتبريد الرؤوس الحامية لا أمل بثلج عابر على أن يطفئها، ودلاء الركام لن ينقل على رقعة الشطرنج حجراً جديداً، هي لعبة إذن، نجيدها أمام الملأ فيما يشبه (البروباغاندا) الجمعية التي جعلت من العالم أكثر من مسرح طليق، وإن كان في الماضي لزوم الضرورات المسرحية، أن تسقط عليه جثث كثيرة، بمعنى رمزي يستحضر الأساطير و(الأليجورات) أي الامثولات، لكن عالم اليوم، ويا لها من نبوءة مركبة ومرعبة، لكثرة الجثث فيه، بتنا نسأل من هم الأحياء؟.

لا تسدل الستائر عن مشاهد بعينها، إذ لا ستائر أصلاً تواري عري مسارح استُنبتت خارج قاعاتها، وبوسعك أن تكون ممثلاً بالمصادفة إذا حانت منك التفاتة، أو مررت مصادفة من أمامها، فلك الخيار أن تكون ضحيتها أو شاهدها الذي رأى كل شيء، يا لدلاء الثلوج من هيجت كل أشجاننا أو بعضها، أو لكأنها هي الأشجان بذاتها.

العدد 1105 - 01/5/2024