هل سيبقى العالم مُقسّماً إلى دول متخلفة ودول متقدمة؟

إن النفس البشرية تميل إلى الإبداع والتجديد والتنافس في شتى الميادين وبضمن ذلك ميادين العلم والفن، فلماذا نجد أمماً متقدمة وأخرى متخلفة؟!

لعل حَجرَي الرحى اللذين يسحقان طاقات الشعوب الإبداعية وكل ما من شأنه تفعيل الشعب كعضو حيوي في جسد الإنسانية العامة، هما قوى الاستعمار وقوى الاستبداد، ولعل القاسم المشترك الرئيسي بينهما هو أن كليهما يحمل نهجاً فكرياً يريد من الناس اتباعه لا المساهمة فيه تكويناً وتطويراً، أي أنه ينظر إلى الناس كطاقة يسعى إلى توظيفها في خدمة المنظومات الإيديولوجية الخاصة به. وعليه، تسعى الأنظمة الاستعمارية والاستبدادية إلى الحدّ من مستوى الحياة العقلية للفرد بحيث يقتصر عمل العقل على إنتاج أفكارٍ تنحصر في كيفية الارتقاء بمستوى الحياة (المادي) أي ما يخص الجسد، بحيث يصبح همّ الإنسان هو تحسين المأكل والملبس والمسكن والمركب، والحصول على امرأة أجمل، والانشغال بالصراع الطبقي عن فكرة إلغاء الطبقية.

وحين يصبح العقل خادماً لحاجات الجسد ونزواته فقط، يستتبع ذلك انهياراً تدريجياً في الأخلاق والقيم، ومنح المجتمع التقدير لقناص الفرص (الفهلوي الحربوق) عوضاً عن المبدعين والمجتهدين، فتجد صالات هائلة المساحة تغص بالحضور في حفلٍ لمغنية جسدها أجمل بكثير من صوتها، وتجد في المقابل قامات وطنية في مجال الموسيقا والأدب والرسم لا يحقق منجزها الهام أي حضور لافت. إن النضج العقلي لأفراد أمة ما يعني بالضرورة التعددية الفكرية والإبداعية والحزبية وهو ما لا تريدهُ قوى الاستعمار والاستبداد. وبذلك النضج وحده يمكن الحد من الأنماط الاستهلاكية التي تعزز سلطة الدول الرأسمالية وسياسات العولمة التي تقوم على تقزيم حضارات شعوب الأرض وثقافاتها، لصالح تعملق ثقافات وأنماط معيشية لأممٍ بعينها. فحين يؤمن الإنسان أن إنفاقه للوقت والجهد يجب أن يكون في نطاق بناء الذات والإنجاز الإبداعي (مستوى الحياة العقلية) لن يمضي حياته في اقتناء الكماليات والانشغال بتتبّع آخر صرعاتها.. فما يُبهر العقل يَشغل عما يُبهر البصر.

إنَّ النضج في العقل الجمعي لأمة ما هو الحامل لقيم التعايش، والشريان الذي يغذي المنظومات الأخلاقية والقانونية.. وتسعى قوى الاستعمار والاستبداد إلى ضرب الحياة العقلية لدى الأفراد، بنشرها الفقر أو الخوف من الفقر وفي ذلك خطورة كبيرة، فالجريمة المنظمة والفساد المستفحل والدعارة الممتهنة وتعاطي الممنوعات.. وجلُّ الأمراض الاجتماعية ناجمة عن الفقر أو الخوف من العوز والفقر.

يقول فولتير: إذا أردت أن تعرف من الذي يتحكم فيك ويحكمك، فلتعلم أنه مَن لا تستطيع أن تنتقده.

يهدف كلٌّ من الاستعمار والاستبداد إلى إشغال الإنسان بقوت يومه، عن تعزيز مستوى الحياة العقلية الذي يميزه عن سائر الكائنات، وسوف أطرح الأسئلة التالية للتوضيح:

إن كنت في منزل فيه مجموعة من الكائنات الحية المتنوعة (فيل، سمكة، نعامة، نسر، فأر) وأردت أن تتحكم بالمنزل وبتلك الكائنات، وأن تأمن أي تحركات قد تقوم بها ولا تصب في مصلحتك فذلك أمرٌ شبه مستحيل. أما إن تمكنت من تحويل تلك الكائنات إلى كائنات أخرى متشابهة بمعنى إلغاء الفوارق التكوينية بين تلك الكائنات، كتحويلها جميعاً إلى قطيعٍ من الأغنام، فبإمكانك حينئذٍ أن تقودهم جميعاً مهما بلغ عددهم بورقة خسٍّ واحدة، فما بالك إن استطعت تحويلهم إلى أكياس بطاطا. حينئذٍ يمكنك نقلهم من حيث تشاء إلى حيث تشاء وفعل ما تريد بهم ولن تخشاهم أبداً. فمن خلال تحديد مستوى الحياة العقلية وتقنينها يمكن تحويل سكان أرض ما إلى أبسط أشكال الحياة البشرية وأكثرها سطحية، وعندئذٍ ومن خلال سياسة كسياسة (العصا والجزرة) يمكنك أن تحكم وتسود.

الإنسان كسائر المخلوقات يسعى في عقله الواعي والباطن إلى تجنب الألم، ولما كان ألم نقص متطلبات الجسد مباشراً (الجوع مثلاً)، فأولويات الإنسان هي تأمين متطلبات الجسد وصيانته، بينما الآلام الناتجة عن عدم إطلاق المستوى الآخر للوجود الإنساني، مستوى الحياة العقلية، فهي آلام غير مباشرة أو بمعنى أدق هي آلام مؤجلة ستسود المجتمع بأسره، وقد أثبت علماء الاجتماع وعلماء الأنثروبولوجيا أن حالة الاستقرار والأمن التي تنعم بها الدول المتخلفة أو النامية التي تحكمها أنظمة استبدادية هي مؤقتة مهما توهم أفرادها وأنظمتها أنها حالة استقرار قابلة للاستدامة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024