حالة الإمبريالية اليوم

 من المفارقات الطريفة أنّه، في حين قرّرت فئة كبرى من المثقفين العرب أن (الإمبريالية) هي، ببساطة، غير موجودة أو نظرية مؤامرة و(مشجب)، يخوض المثقفون في الغرب، بلا انقطاع، نقاشات طويلة عن حال الإمبريالية الأمريكية، وتاريخها ومستقبلها، وسبل تحسينها وتشذيبها وجعلها أكثر فعالية.

كل عقدٍ أو أقلّ، يخرج اليمين الأمريكي بتقييمٍ جديد لدور أمريكا في العالم، يكون مفهوم (الإمبريالية) في مركزه. أشهر هذه النقاشات أطلقها، عام ،1997 بيان (المشروع نحو قرنٍ أمريكي جديد)، الذي وقّعته مجموعة من المفكرين، أغلبهم صار يعرف (في ما بعد) باسم (المحافظين الجدد)، وبعضهم تسنّم مراكز أساسية وحساسة في إدارة جورج بوش. البيان طالب، بوضوح، بـ (قيادة أمريكية للعالم)، وأن أمريكا، باعتبارها (القوة الرئيسية في العالم)، يجب عليها التخطيط (لتشكيل قرنٍ جديد يؤاتي المبادئ والمصالح الأمريكية).

هذه الدعوات، حتى نفهم الإطار الذي ينطلق منه هؤلاء، تفترض تاريخاً للإمبريالية يختلف بالكامل عن نظرة أهل الجنوب العالمي إلى الاستعمار. (الإمبريالية)، لدى طيفٍ مهم من مثقفي اليمين اليوم، هي أمرٌ (جيّد)، فالإمبراطورية، سواء البريطانية أم الأمريكية، تؤمّن منظومة استقرار و)قانون) في العالم، وتدفع في اتجاه العولمة والاندماج؛ إضافة إلى مهمة (تحضير) الشعوب (المتخلفة) من قبل المركز الإمبراطوري وتزويدهم، عبر الحكم- الاحتلال المباشر، بالمؤسسات الوطنية والبنى التحتية (والديمقراطية، كما في حالة الهند).

هذه النقاط أعلاه كانت، فعلياً، خلاصة كتاب نيال فيرغسون الشهير (الأوّل) عن الإمبراطورية البريطانية؛ والهدف منه كان تقديم سردية مضادة، إيجابية، عن تاريخ الاستعمار، تلقّفها دعاة الإمبراطورية الأمريكية وبنوا عليها.

حجج فيرغسون ذاتها استحضرها مقال روبرت كابلان الأخير في (فورن بوليسي)، وهو يلوم عدم الاستقرار والحروب في الشرق الأوسط على غياب المنظومة الإمبريالية وضعف الإمبراطورية الأمريكية التي، مع انسحابها التدريجي من المنطقة، تترك الإقليم نهباً للحروب الأهلية والتفكك والفوضى، يقول كابلان: (هذا هو المقال الثاني للكاتب، في غضون سنة، في التنظير للإمبريالية وضرورتها).

إلا أن اليسار الأمريكي يحمل نظرة مختلفة، وهو يحاجج بأن ما نراه من حروب وقلاقل في المنطقة سببه إصرار واشنطن على إمبراطوريتها، بأي ثمن، وليس تخليها عن النمط الإمبريالي. وأن اشتعال الصراعات هو دليلٌ على استشراس أمريكا في الحفاظ على موقعها في المنطقة، ولو صارت ركاماً، باعتبارها المفتاح الأساس للإمبراطورية وهيمنتها العالمية، خاصة مع التحديات القادمة من الشرق. كتب عالم السياسة جون غلازر، في (غارديان) معلقاً على علاقة أمريكا بالصين إنّ المعادلة، على عكس ما يصورها السياسيون الأمريكيون، بسيطة: يكفي أن تتخلى أمريكا عن إمبراطوريتها حتى لا يعود الصدام مع الصين حتمياً. إلا أن هذا تحديداً ما لا تريده النخب الأمريكية، فهي مقتنعة (عن حق أو عن خطأ) بأن أمريكا، إن خسرت هيمنتها على النظام العالمي، فستبدأ بالانهيار داخلياً، بعد أن تفقد مزاياها الاقتصادية السياسية وتصبح دولة (عادية)، عليها الدفاع عن عملتها وأسواقها وتجارتها كأي بلد آخر.

سواء كنا نشهد مرحلة انطفاء الإمبراطورية وزفراتها الأخيرة، أم توحّشها في الدفاع عن نفسها، فالعامل الأمريكي الداخلي قد يكون هو الحاسم. ولكن الخطاب السياسي العربي ما زال مصرّاً على أننا لا نعيش في عصرٍ إمبريالي، ولا نحتاج إلى نظرية للتعامل معه (مع أننا في قلبه وبلادنا ملعبه)؛ اللهم إلا بعض المثقفين الذين تلقفوا بحبور كلام كابلان ومنطق فيرغسون (الذي انتقده العديد من المؤرخين واعتبروا سرديته تبسيطية ومناقضة للوقائع)، ليعبروا عن حنينهم للاستعمار.

عن (الأخبار)

العدد 1107 - 22/5/2024