بلادٌ دون شباب… حديقة بلا أشجار

يخرج الإنسان في مرحلة الشباب إلى الحياة وكأنه يمتلك الدنيا بشتى تفاصيلها، وبحكم حماسه واندفاعه اللذين تتسم بهما مرحلته العمرية هذه فإنه يسعى جاهداً لتغيير المنظومات الفكرية والقيمية والمجتمعية والسياسية التي نشأ عليها، وكل ذلك عبر وجهة نظره ومنظومته التي يبدأ بتشكيلها وتكوينها ليكبر فيما بعد ويدخل مرحلة عمرية جديدة، فإما أن يبقى متمسكاً بما تراكم لديه من رؤى وأفكار، أو أنه يتراجع عنها لصالح التركيبة المتكاملة التي كان ذات يومٍ رافضاً ومستهجناً لها.

ما لفت انتباهي اختلاف المفاهيم وجملة القيم وطرق التفكير بين عدة أجيال متتالية أدت في بعض المحطات إلى ما يشبه القطيعة بين تلك الأجيال، فجيل شباب الثمانينيات من القرن الماضي نشأ في أواخر ما يسمى بالحراك السياسي على المستوى العالمي ككل، فتبنى قيماً وأفكاراً تناسبت والمرحلة ذاتها، ونشط وكون منظومته البنيوية والقيمية والاجتماعية على أساسها، إلا أنه حينما ترعرع وكبر وجد أن كل ذلك قد تلاشى بحكم انحسار المد السياسي ( وأيضاً عالمياً)، وعدم قدرة هذا الأخير على تحقيق جملة الأحلام والآمال الموعودة والمرتقبة، وأصابه ما أصاب العالم برمته من تشتت وتبعثر وفقدان للبوصلة، إلا أن شيئاً ما بقي محافظاً على مكانته ومكانه في فكر ذاك الجيل أكثر مما لدى جيل التسعينيات من القرن ذاته، الذي نشأ وفتح ناظريه في فترة ملأى بالتخبط وعدم القدرة على تحديد الهوية، مما جعل نظرته إلى الحياة والواقع وإلى مجمل الأمور تتسم بعدم الاستقرار وعلى مختلف الصعد، نفسياً واجتماعياً وفكرياً وعاطفياً… إلخ،

فلا هو كما سابقيه حيث الهدوء والكينونة، ولا هو هناك حيث الاستقرار الحاصل بعد العاصفة وبدء خلق قيم ومفاهيم أخرى تتناسب وما حدث كما كان من المفترض للجيل الذي تلاه أن يعيشها، جيل أوائل القرن الحادي والعشرين المرتبط بالتكنولوجيا ووسائل التواصل والاتصال والتطور التقني، جيل تجمعت لديه نتائج الانهيارات الهائلة مترافقةً بفترة انفتاحٍ كبيرٍ على كل ما هو جديد، إلا أن هذا الجيل أيضاً لم يتوصل إلى حالة الاستقرار المنشود بحكم الحروب المتتالية والتشرذم المتواتر في محيطه سواء القريب أو البعيد، وها نحن اليوم أمامه نقف مكتوفي الأيدي، غير قادرين على تحديد توصيف دقيقٍ له، ولا على مساعدته للعبور مما هو فيه بأقل الخسائر الممكنة، فإن اتسم شباب التسعينيات بعدم الاستقرار، فإن الجيل اللاحق سمته العامة- حسب زعمي- هي الضياع، فكثيراً ما تراه يبحث عن نفسه أينما كان، إنما دون بوصلةٍ ترشده، مما دفعه نحو الاستلاب الكلي سواء للتكنولوجيا التي تشعره بأهميته، أو للمخدرات التي تعطيه ذاك الإحساس المفقود المتمثل بالراحة والتحليق، ولا ننفي وجود بعض من توجهوا نحو خلق بنى وأحلام جديدة إما من خلال الفن بشتى مذاهبه وأطيافه، أو من خلال السعي لتحقيق الذات عبر العلم أو العمل…

إنه الضياع الحقيقي!!!… وما زاد في الأمر سوءاً، هذه الحرب اللعينة التي لا أحد يريد لها نهاية، فقضت على ما كان يمكن العمل عليه إما على المستوى الاجتماعي أو الأخلاقي أو الإنساني أو الاقتصادي أو التربوي أو أو….. ولمصلحة من؟؟

لصالح من يحري العمل المتعمد على إبعاد جيلٍ بأكمله عن مسيرة الحياة؟ ألن يساهم هذا في تخلف البلاد وتدهورها والقضاء عليها أكثر مما يحصل حالياً؟!، ذلك أن بلاداً من دون شبابٍ حالمٍ جَموحٍ ليست إلا عجوزاً في أواخر أيام حياتها لم يعد لديها ما تقدمه أو تعطيه، وهذا حال تلك الدول التي استقطبت خيرة شبابنا بحجة حمايتهم من الأذى، فبعد أن وصلت إلى مرحلة الكهولة تنبهت لضرورة احتضان جيل الشباب المتحمس وأهميته، فبدأت باستقطاب خيرة شبابنا وشاباتنا لينقذوها من الموت المحتم، بينما نحن ندفعهم دفعاً للرحيل لأننا نئدهم وأحلامهم وآمالهم ورغبتهم بالتغيير والتطوير والتحليق التي لا تزال في ريعانها!!!

 

العدد 1105 - 01/5/2024