هل من تحول في العلاقات السورية الفرنسية؟

 

يقول المؤرخ ميشيل دافت:
(الشرق بالنسبة إلى فرنسا هو قبل كل شيء سورية)
وهذه المقولة بلا شك طبعت سياسة فرنسا طوال عقود طويلة مع سورية. بدءاً من اللعب الفرنسي على مسألة المكونات والعصبيات بدءاً من أحداث جبل لبنان 1860 وحتى فترة الاحتلال الفرنسي، والتأثيرات العميقة التي تركتها على الوحدة الوطنية والمجتمعية السورية، إلى دعمها المطلق للرئيس السوري السابق حسني الزعيم منفذ أول انقلاب عسكري في الوطن العربي، والذي كان يوصف بأنه طالما يفضل التكلم باللغة الفرنسية بدلاً من العربية.

 ورغم تأييد الرئيس حافظ الأسد الثورة الإيرانية خلال ثمانينات القرن الماضي، ووقوف فرنسا بالمقابل بشكل مطلق ضدها ولصالح عراق صدام حسين، بقيت العلاقات السورية-الفرنسية على سوية عالية من التواصل الإيجابي طويل الأمد، إلى أن بدأت تتعرض لاضطرابات جدية وحقيقية مع زيادة التأثير السوري على لبنان.
إذ طالما شكل لبنان المؤشر الرئيسي لطبيعة العلاقة الحاكمة بين سورية وفرنسا. وإذا كانت باريس على علاقة جيدة مع دمشق، إلا أنها في الوقت نفسه كانت تبحث عن طريقة لإضعاف الدور السوري الكبير في لبنان، وكانت الفرصة مواتية في عام ،2005 بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري،
فقد عملت الدبلوماسية الفرنسية بنشاط غير مسبوق على خلق ودعم كل الظروف للحد من الدور السوري في لبنان. لكن في عام 2007 أدركت فرنسا أنها أخطأت التقدير بسقوط الدور السوري في لبنان، فأعادت باريس في عهد الرئيس ساركوزي العلاقات إلى سابق عهدها، إلا أن السياسات الفرنسية المطواعة لولايات المتحدة كانت تنذر بتدهور هذا المسار بين البلدين في أي لحظة.

ومع اندلاع الأزمة السورية عام ،2011 لم يكن من المستغرب لمن يعرف حساسية المؤشر اللبناني بالنسبة للبلدين أن يتوقع الدور الفرنسي المعادي بقوة لنظام الحكام في سورية، والتصريحات الفرنسية العلنية التي تجاوزت كل الأعراف الدولية والدبلوماسية والتي طالبت بتنحي الرئيس السوري، والداعمة بشكل مطلق للمجموعات المسلحة،
رغم علم السلطات الفرنسية بالميول العقائدية الفاشية لهذه المجموعات وخطورتها على الأمن القومي الفرنسي. ولم تكتف فرنسا بالتصريحات وإقامة المؤتمرات، بل انتقلت إلى عدوانية صريحة من خلال الدعم العسكري لهذه المجموعات، عندما أعلن الرئيس الفرنسي هولاند صراحة أن:
(فرنسا سلمت المعارضة السورية أسلحة محدودة وفقاً لقوانين الاتحاد الأوربي) لخلق نوع من (التوازن بين قدرات النظام ومعارضيه)،
لا بل أكثر من ذلك رفضت فرنسا حتى الدخول مع التحالف الدولي لضرب (تنظيم الدولة الإسلامية) في سورية خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى رجحان كفة الجيش السوري في حربه ضد مجموعات المعارضة السورية المسلحة.
لكن يبدو أن كل هذا تغير مع قدوم الرئيس الجديد إيمانويل ماكرون الذي اتهم بقلة الخبرة في مجال الشؤون الدولية عندما كان مرشحاً لرئاسة الجمهورية الفرنسية، لكن بمجرد دخوله في قصر الأليزيه، واستلامه مهامه، عدّل بشكل لافت السياسة الخارجية الفرنسية تجاه سورية، وأعلن صراحة أن تنحي الرئيس السوري ليس مطلباً إلزامياً لحل الأزمة السورية،
بل أكثر من ذلك هناك مؤشرات تتداولها بعض النخب السياسية في دمشق بأن باريس بدأت تأهيل سفارتها في دمشق استعداداً للعودة. استهجنت المعارضة السورية في الخارج المحسوبة على الرياض هذا الموقف الجديد من الرئيس الفرنسي واعتبرته صادماً،
خاصة أن فرنسا هي واحدة من الدول الأربع التي شكلت نواة (أصدقاء سورية) إلى جانب كل من بريطانيا وقطر والمملكة العربية السعودية.

الآن، بعد مرور سبع سنوات من الأزمة السورية، تجد فرنسا نفسها مرة أخرى أنها قد أخطأت التقدير، وأن هذا التحول في مواقفها لم يكن وليد المصادفة، خاصة أن المعارضة التي راهنت عليها فرنسا هي مشرذمة ومعظم مرجعياتها السياسية ليست بيد فرنسا بل بيد الولايات المتحدة وبعض حلفائها الإقليميين.
حتى مع دعمها الجهد الغربي في تدويل الأزمة السورية، لم تفلح مساعي فرنسا في مجلس الأمن في إصدار أي قرار بفعل الفيتو الروسي الصيني ورفض هذا التوجه. لذلك تجد فرنسا نفسها مضطرة إلى مراجعة سياساتها الخارجية نحو الشرق الأوسط عموماً وسورية خصوصاً.

 

العدد 1105 - 01/5/2024