العطر بوابة القلوب

على مر السنين، برهن بنوالبشر، أنهم مفطورون على حب الجمال، ووصفه بأجمل الكلمات، وتتبعه، فمن المكان البديع، والصحبة الممتعة، والصوت العذب، إلى الرائحة الأخاذة، لهذا نحاول باستمرار تحصيل ما أمكننا من هذا الجمال، وربطه بذكرى لا تنسى،عبر أهم حواسنا كما بين العلم، فالروائح لها طبيعة خاصة وغامضة تقترن بالذكريات، وتصبح الرائحة بذلك مفتاح العبور لعالم الماضي الجميل، فكل عاشق لدمشق، أبعده الزمن عنها، تجتاحه ذكرياته فيها بمجرد استنشاقه لعطر الياسمين، لتحمله سريعاً لحاراتها العتيقة، وممراتها الدافئة، فللروائح قدرة على كشف المشاعر، وسبر أغوار الذكريات.

تاريخ تعلق الناس بالعطور، يعود بنا إلى العصور الحجرية، حيث عرف الإنسان البدائي العطر، من استنشاقه للورود والأعشاب، فكان يحرقها لتعطيه الروائح العطرة، ومن ثم شهدت صناعة العطور، تطوراَ كبيراً في مصر، وكانت توجد طريقتان لصناعته: الأولى، يصنع للملكات وزوجات الأمراء، والكهنة للتزين به عند الاحتفالات، للطبقات الغنية فقط، وكان يصنع من خلاصة الأزهار المعصورة، داخل ورق البردي، أما الطريقة الثانية، كانت بهدف تقديم قرابيين للآلهة، وتوديع المتوفي، حيث يتم حرق الورود لإعطاء رائحة عطرة للجو، وتتالت المراحل إلى أن وصلت للحضارة القبطية، وكانت أهم طريقة لصنع العطر، هي مزج سائل شجرة المر، مع قرفة عادية، ثم وضع عصير القصب، والقرفة الصينية، وكانت هذه الطريقة ممنوع استخدامها إلا للقساوسة أو للمرأة في بعض الحالات.

ويعد العرب أول من استخدم تاج الزهرة، لاستخراج ماء الزهور منذ 1300 عام، ولم يقتصر استعماله كعطر فقط، بل كدواء أيضاً، وعطر الورد يعتبر أقدم أنواع العطور في العالم، وقد كان رائجاً جداً، لدى القبائل العربية.

وكانت أزهار الياسمين، والبنفسج وزهر الليمون والورد وغيرها، من أهم مصادر العطور عند العرب، بالإضافة إلى بعض أنواع الخشب،مثل خشب الأرز وخشب الصندل،كذلك حال أوراق بعض النباتات، مثل النعناع والخزامى، وكذلك من جذور معينة، مثل الزنجبيل والسوسن، وكان يستخدم المسك والعنبر كجزء أساسي، في تحضير أغلب العطور.

فيما بعد ورثت أوروبا معظم طرقها من العرب، كان الهونجاريين هم الذين أضافوا الكحول، إلى صناعة العطور، في عام 1370 تم صنع أول عطر مع كحول، يما تمكنت فرنسا من الهيمنة على مجال صناعة العطور، فقد كان يصنع في جنوب فرنسا أهم العطور، ومستحضرات التجميل العالمية، عند تطور الكيمياء طرأ على صناعة العطور تغيرات كثيرة، أصبح استخدام العطور حالة شائعة بين طبقات الشعب، وبالوصول إلى وقتنا الحالي أصبحت العطور، تركب من مواد كيميائية، حيث تبدو وكأنها روائح طبيعية، تهتم بها شركات كبرى متخصصة في هذا المجال.

ويعتبر العطر من الأشياء المهمة للإنسان، حيث يعبر من خلاله عن ذاته، وتبعاً لأنواع العطور المنتشرة والمتنوعة، يكمن سر اختيار العطر لطبيعة الشخصية واختلافها عن غيرها، فمن الملاحظ أن الناس تختلف باختيار نوع العطر كل حسب ذوقه، لهذا نجد أن هناك اختلافات كثيرة، ومجموعة أسباب تحدد اختيار كل من الرجال، والنساء للعطر المناسب لهم.

ولما للعطر وللروائح الزكية، من أهمية كبيرة في حياتنا، وصل خبراء العطور، إلى مرحلة تسمح لهم بالتعرّف على نوع الموسيقى الذي تفضله، والألوان المميزة لديك، فضلا عن الأجواء التي تناسبك والأماكن التي تهوى الذهاب إليها، فتمكنهم خبرتهم من سبر أغوار شخصيّتك، وما هي سلوكياتك، فالعطر يمكن أن يظهر طبيعة الإنسان، أكثر من طريقة كتابته وخطّ يده.

لهذا يقول الخبراء أن المرأة الهادئة نسبياً، يناسبها العطر البسيط الخفيف، الذي يتكون من الأزهار المختلفة، أما المرأة العصبية فهي بحاجة لاستخدام عطر خفيف التركيز قوي الرائحة، ليهدأ من حدة طباعها، ويبث في نفسها قليلاً من الهدوء، كعطر العود والليلك والعطور التي تؤثر في مزاجها.

وهذه القواعد تنطبق أيضا على الرجل، كالمرأة تماماً، فتوجد العديد من العطور الخاصة بهم، التي تناسب شخصيتهم وتركيبة أجسامهم، حيث تختلف نسبة تجاوب الجلد مع العطر، فعند النساء يكون أسرع من الرجال،كما تختلف عند الأطفال.

ورغم مرور زمن طويل على إصدار بعض أنواع العطور، إلا أنها لا تزال محافظة على مكانتها ومحبيها، وتم تصنيفها على أنها عطور كلاسيكية، تسلب القلوب وتأسر النفوس، وتجد طريقها لتحتل العقول، وتنعش المخيلة، مما يجعل تفضيل الجديد عن القديم أمر صعب، خصوصاً أنه يتم حديثاً إعادة تركيب العطور القديمة، والإضافة عليها ومزجها لتطرح من جديد برائحة مبتكرة، تجمع بين الماضي والحاضر، مما يساعد على بيعها وترويجها بشكل أوسع.

ولكل نوع من العطور رائحته المميّزة، التي تعبر عن شخصية الفرد، مع العلم أن هناك من يميز بين الروائح العطرية، التي تتناسب مع فصل الصيف أو مع فصل الشتاء، ويوجد عطور خفيفة لوقت الصباح وأخرى تتمتع بالرومانسية للمساء، وبناء على تركيز الزيوت العطرية، يتم تقسيم العطور، حسب فترة بقاء رائحة العطر، فالعطر ذو التركيز المرتفع تبقى رائحته لفترة طويلة، والعطور ذات التركيز المنخفض تبقى لفترات أقصر.

ومن الناحية السيكولوجي للروائح، تمتلك تأثيراً كبيراً لا يمكن نكرانه،حيث يعتبر عامل تحفيز وإلهام للذاكرة، وأثبت أن للعطر قوة هائلة تعزز قدرة الدماغ على التذكر، وأن تأثير الرائحة على الذاكرة يفوق تأثير بقيّة الحواس، ومن الممكن أن تشكل نفحة عطر بوابة لتشكيل الصور الذهنية التي تثيرها، والكشف عن الأسرار الكامنة، وراء انجذابنا لبعض الأماكن والأشخاص، فكثيراً ما يترك عطر شخص ما أثراً في نفوسنا، أقوى من الأثر النابع من مصافحة الأيادي مثلاً.

ولهذا تعتني المرأة على وجه الخصوص، بهذه العطور لتترك أثر أكبر في محيطها، ولتشعرها بالتميز بشكل من الأشكال، مقارنةً بأقرانها، فالإنسان يتعلق بما يربطه باللحظات الجميلة التي يمر بها، فهي الوحيدة القادرة على اختصار المسافات وإنعاش الذكريات، ولطالما أهدتنا الحياة طرقاً جديدة تبث الفرح في نفوسنا، وتلهمنا السعادة عبر أريج العطور المتنوعة، المستمدة من الطبيعة الغنية والكريمة بخيراتها، لترمي سحرها علينا، وتأسرنا في عالم ممزوج بالخيال والغموض والأحلام والذكريات، وترسلنا إلى مستقبل، يعبق بعطر كل ما تمنيناه.

العدد 1105 - 01/5/2024