«التهجير»..حرب ديمغرافية ضد سورية!

 شهدت منطقة الجزيرة السورية وبعض مناطق الشمال العراقي في أواخر القرن الماضي موجة واسعة من الهجرة، تركزت في أوساط العائلات والشباب السرياني والكلدوآشوري باتجاه شمال أوربا، أي إلى الدول الإسكندنافية وخاصة السويد، والقليل منها اتجه إلى أستراليا وأمريكا الشمالية.

وقيل آنذاك إنها هجرة مخططة ترعاها منظمات دولية، غايتها ليست بريئة أبداً، إذ غطيت بأكاذيب متنوعة، منها الخوف على ما يطلقون عليه تسمية (أقليات)، لكن تبين أن أصابع الصهيونية العالمية لم تكن بعيدة عن المساهمة والمشاركة في هذه الهجرة، كما شجعت على هذه الهجرة أوساط دينية لم تكن أيضاً بريئة بالمطلق، فالأحداث في شمال العراق بل على كامل التراب العراقي، شكلت مبرراً لحركة نزوح داخلي نحو سورية ولبنان، ولكن في الشمال السوري كان يسود الأمن والأمان والانفراج المادي، ولم يكن هناك داعش أو النصرة، ولا جيوش الفتح والإسلام.. وآنذاك علّق محللون على تلك الهجرة بأنها تهدف إلى تجريد سورية من جذورها الحضارية التاريخية.

المخطط التهجيري الذي لم يستكمل في حينه بقي برسم التنفيذ، وطاعون الحرب الإرهابية التي تستهدف سورية منذ نحو خمس سنوات تجري تغذيته باستمرار، وتنمية أسبابه ومنها عمليات التهجير (القسري والاحتيالي) ترهيباً وترغيباً وضمن مخططات واسعة تشمل سورية والعراق وقبل ذلك لبنان وفلسطين.

ويستهدف هذا المخطط شرائح مختارة من السوريين إثنياً وعرقياً وطبقياً، بمعنى أوضح مجموعات مختارة ممن يسمونهم (أقليات). واللافت للنظر أنهم يسهلون تهجير الأجيال الشابة المثقفة وفئات الأثرياء مع رساميلهم إلى دول تحتاج إليهم لأكثر من سبب منها: ارتفاع نسبة الكهولة في تلك الدول ومعاناتها من نقص الشباب، والحاجة إلى المواليد لمنع الانحدار نحو الانقراض، وأيضاً استنزاف دول المنطقة ديمغرافياً ومالياً وإفقارها عقلياً وعلمياً عن طريق استدراج العقول إلى الهجرة، وتقديم الحوافز والمغريات ولو عن طريق الإشاعة الكاذبة والدعاية الإعلامية المغرضة.

وفيما يتعلق بسورية خاصة، كان الهدف من التهجير الجماعي باتجاه تركيا والأردن ولبنان مع بداية الأحداث فيها، ممارسة الضغط على الدولة السورية عبر شيطنتها وإظهارها أمام العالم بأنها دولة تضطهد مواطنيها، وقد لعب الضخ الإعلامي الغربي والعميل لها على الأرض العربية دوراً كبيراً في بث الرعب والخوف في نفوس السكان الآمنين، ودفعهم إلى الاعتقاد بأن الحكم في سورية يتجه إلى الانتقام من المواطنين دون تمييز أو رحمة.. وهكذا كان النزوح الجماعي باتجاه الأردن وما نتج عنه من معاناة ومتاجرة بالسوريات، ونحو لبنان، وقد اتخذ هذا النزوح طابعاً قسرياً للمتاجرة بآلام السوريين وتوظيفها سياسياً لإسقاط الدولة السورية.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ما حصل ومايزال يحصل في هذا السياق هجرة أم تهجير؟ هذا مع العلم بأن جماعات وعائلات تتجه نحو أوربا عن طريق تركيا حصراً وعبر لبنان، في مغامرة بالغة الخطورة، إذ يتعرض الكثيرون للغرق في البحر أو السجن والإهانة في تركيا وغيرها من الدول، أو يتعرضون للموت بطرق مجهولة والمتاجرة بأعضائهم!

سؤال آخر: لماذا يفتح تنظيم داعش الإرهابي المعابر باتجاه تركيا فقط؟ ولماذا يمنع سكان الرقة أو القادمين إليها من التوجه إلى دمشق أو حمص إلا في حالات نادرة؟ ثم بعد السيطرة على تدمر، أُجبر أهلها على الخروج إلى الرقة، ومن هناك يسمح لهم بالذهاب إلى تركيا!

إذاً بإيجاز المسألة تهجير مخطط وليست مسألة هجرة، إنها حرب (ديمغرافية) لإفراغ سورية من شرائح مجتمعية هامة على كل الأصعدة، في فصل جديد من فصول الحرب الإرهابية التي تشن عليها منذ سنوات.

إضافة إلى ذلك فإن المتوجهين إلى ألمانيا أو النمسا أو السويد يتعرضون لاستغلال (مافيات) عربية وبلغارية مقيمة في تركيا ودول أوربية (مافيات موظفة لهذه الغاية)، ولكن المؤسف ورغم كل ذلك فإن حركة الهجرة، والأصح التهجير، تزداد وتتضاعف أعداد المغامرين من جيل الشباب، وكأن الجنة هبطت إلى أوربا وألمانيا بالذات!

نعم، عمليات التهجير هذه مخططة ومنظمة ومبرمجة، إذ يتم اختيار المقبولين من جيل الشباب خاصة، وحملة الشهادات العالية، ومن بعض من يحملون معهم مبالغ مالية كبيرة تكفيهم لبدء حياة جديدة، إذ يتم تأهيلهم بعد اتباع دورات تعلم اللغة. ويقول البعض إن ألمانيا بحاجة إلى التجدد، فنسبة الكهولة فيها مرتفعة، ونسبة الولادات دون المعدل المقبول.

باختصار شديد، أياً تكن أسباب الهجرة، البحث عن ملاذ آمن، أو البحث عن فرص عمل وعيش أفضل، أو الخوف من داعش والنصرة وباقي العصابات التكفيرية الإرهابية، فإن (التهجير) الذي يطلقون عليه اسم (هجرة) هو تنفيذ لمخطط ومنهج مدروسين، ولا يمكن إدراجه ضمن ردود الأفعال على ما يجري من عنف إرهابي، وتقوم على رعاية هذا التهجير وتسهيل أموره، بعد توفير أسبابه، جهات تضمر الشر لسورية وللوطن العربي بأسره، إذ إن هذه الجهات الغربية لم تتوقف يوماً عن العمل الجاد لهدم بنيان المنطقة العربية وتفتيتها وتشريد شعوبها واستبدال شعوب أخرى بها.

وبالتالي ما نود تأكيده هو أنه على أبناء شعبنا إدراك ماهية مخطط التهجير هذا وأبعاده، وعدم الانجرار وراء الحلم بالثروة والجنة في أوربا، ثم إن رعاة التهجير ومسهليه هم من أدوات العدوان على سورية وغيرها من الدول العربية.

العدد 1107 - 22/5/2024