دمشق بين عصابية المتطرف وشاعرية المعتدل

أشاع الإعلام السياسي منذ عام 1978 مجموعة من المقولات منها (الاعتدال والتطرف)، ومنها (الإسلام السياسي)، ومنها (الإسلام العربي وغير العربي)، ومنها (الصحوة الإسلامية). وقد انسحبت تلك المقولات على النزاعات الدولية حول المنطقة العربية, وبالاستتباع استثمر كثير منها في النزاعات بين الأقطاب العرب في محاولة من كل طرف للاستئثار بالقرار الديني أو القومي.

وإذا كنا قد حددنا عام 1978 بداية لسجال سياسي إسلامي، فإنما عنينا بهذا التحديد (الثورة) الإسلامية في إيران. فتلك الثورة أقالت الاحتكار العربي للإسلام وصرمت دوره السياسي في الصراع العربي الإسرائيلي, لكنها أثارت ردود فعل عربية شاملة نتج عنها الحرب العراقية الإيرانية (1980- 1988)، ثم نتج عن الناتج اجتياح العراق للكويت، ليُنتج الاجتياح أيضاً الحرب  العربية الأطلسية على العراق 1991، ثم الحرب الأمريكية 1993… وإن ما نراه اليوم ونعيشه في الوطن السوري ناتج – بالضرورة – عن تلك المقدمات، التي نشأت (وتبيأت) في ظروف اختلال التوازن الدولي 1991-2003م.

والاختلال اليوم يتخذ شكلاً آخر جديداً, فالأزمة المصرفية التي أفضت عن أزمة في عمق الرأسمالية (الشركات المتعددة الجنسيات) دفعت بالمؤسسات الأطلسية صاحبة القرار للتحالف مع المؤسسات النفطية في غاية مؤداها إقالة النظم العلمانية في العالم العربي وإحلال نظم العصور الوسطى بما تحمله من ثقافة تلك العصور القائمة على الأحادية الإقصائية لتُلبسها ثوباً كان قدّ لغيرها (الديمقراطية). وقد بدا الثوب هنا مهلهلاً فضفاضاً تنفر خيوطه وألوانه من جسد اللابس, والطلاق بينهما شرعي من وجهة كل من الطرفين. فالناتج الثيولوجي للقروسطوية لا يمكن له تحت أي شرط أن يتوافق مع الناتج عن العصور الحديثة من الكشف الجغرافي إلى الإصلاح الكنسي إلى العقل والأنوار إلى التجريب والصناعة إلى الأيديولوجيات إلى الانقلاب على هذا وذاك بثورة المعرفة وغزو الفضاء.

وهنا أسمح لنفسي أن أعود بالقارئ الكريم إلى نمطين من الشخصية الإسلامية، والنمطان شاميان اصطفت الشام منهما ما يناسب أنهارها وغوطتها وتاريخها وجغرافيتها وأديانها وأعراقها. اصطفت بفعل قدرتها على صنع الحياة المثلى. ففي دمشق يرقد المتصوف والمفكر ابن عربي (1165-1240)، وسيرة الرجل حافلة بكل جميل. ولد بـ (مرسية) ودرس الفقه والحديث في أشبيلية, لكنه كغيره من علماء العصر الوسيط الإسلامي – ارتحل عن مولده ومنشئه، فتوجه إلى مصر ثم  إلى الحجاز ثم إلى ما (بين النهرين) فآسيا الصغرى, ثم إلى دمشق, ودمشق حالت بينه وبين المكان الآخر حتى توفي فيها.

أما عن مذهبه فقد كان في العبادات والمعاملات ظاهرياً، وفي العقائد كان باطنياً, ويذكر بروكلمان: (إن له مئةً وخمسين مصنفاً، أهمها الفتوحات المكية، وفصوص الحِكَم، والتعريفات، ومحاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار ومفاتيح الغيب. ومن آثاره الجديرة بالاهتمام ديوانه (ترجمان الأشواق). وهو يعمل في شعره كما في نثره على فكرة (وحدة الوجود ووحدة الأديان والحقيقة المحمدية). وعنده يتلاقى النظر الفلسفي بالذوق الصوفي. ولأنه تجاوز الفقهاء في الانفتاح على الدنيا وقراءة الآخرة نسبه أولئك إلى (المُضِلّة) وقالوا: (الرمز عنده سترٌ لما ينافي  الدين). ولمّا لم يكن يثق بأهل اللغة والأدب، بحكم انحيازهم إلى فئة الفقهاء، لجأ إلى شرح ديوانه بنفسه تحت عنوان (الذخائر والأعلاق في شرح ترجمان الأشواق). وأشهر من اتهمه بالبعد عن الدين ابن تيمية، وابن خلدون (ت 1406م)، وابن حجر العسقلاني (ت 1448م). واتهم بإشاعة المذاهب المضلة, ولكن على يسار هؤلاء ثمة من برّأه من التهمتين السابقتين كـ مجد الدين الفيروزأبادي وفخر الدين الرازي بحكم الثقافة التجريبية الموسوعية المتجاوزة للفكر الديني. وأما جلال الدين السيوطي فقد برّأه من التهمة الأولى.

وفي حوار مع الشاعر المتصوف ابن الفارض (ت 1224م) طلب منه أن يضع شرحاً للتائية الكبرى المسماة بـ(نظم السلوك)، فأجابه ابن الفارض: (إن كتابك الفتوحات المكية شرح لها). وهنا يلتقي أصحاب الرأي الحرّ القائم على القراءة الفردية للظواهر وعدم الوقوف عند الاتجاه الإجباري الذي يفتح أبواب العصاب. والعصابي على رأي فرويد (يُشيح عن الواقع لأنه يجده لا يُطاق بتمامه أو بعض أجزائه). ولعله من المغني أن نذكِّر ببعض ما جاء في تائية ابن الفارض:

سقَتْني حُميَّا الحبِّ راحةَ مقلتي
وكأسي مُحيا منْ عنِ الحسنِ جلّتٍ

فأشفقْتُ منْ سرِّ الحديثِ بسائري
فتعربُ عن سرِّي عبارةُ عَبرتي

ونهجُ سبيلي واضحٌ لمنِ اهتدى
ولكنَّها الأهواءُ عمَّتْ فأعمَتِ

أما عن مذهب ابن عربي فيختصره بقوله: (سبحان من خلق الأشياء، وهو عينها). فالوجود ووجود المخلوقات عين وجود الخالق, فوجود الله حقيقيٌّ ووجود المخلوقات وهمي. (ويتزيد الرجل فيقول: (الحسن الظاهر والقاصر لا يُدرِكان وجود الوجود، ولا الحقيقة المحمدية التي يسميها (القطب). والدين عنده كله لله. وهنا نستذكر مقولات النهضة والاستقلال عندما ردَّد دعاتُهما (الدين لله والوطن للجميع). وهذه العبارة التي ارتقت لتكون شعاراً وطنياً ذات مد شعبي يعدُّهما التطرف الإسلامي (خروجاً على الدين وكفراً). وقد صرح بهذا غير سلفي في مصر وتونس والجزائر والجزيرة… ومما يُستحسن الوقوف عنده مقولة لابن عربي (ما المصلِّي على الطريقة المسيحية وعلى الطريقة الإسلامية، بأفضل من الوثنِّي ذي القلب النظيف).

وبالمقابل ففي دمشق دُفن ابن تيمية (1263-1328م) تقي الدين أحمد الحراني نسبة إلى حران, وهي مدينة قديمة ما بين النهرين موطن إبراهيم الخليل بعد هجرته من أُور، خسرها الرومان عام 53 ق.م. وقد أسسوا فيها مدرسة ثقافية عنيت بالعلوم التجريبية، كما تخرج فيها علماء الصابئة من فلاسفة ومترجمين، وأشهرهم ثابت بن قرّه وهلال بن المحسن. أما ابن تيمية فقد غادرها صغيراً بعد أن فرّ أبوه من عسف المغول، ليستوطن دمشق. ودرس على يد زين الدين القدسي، ثم استكمل على يد نجم الدين بن عساكر (ت 1176م) المؤرخ الرحالة. وله (تاريخ دمشق) في ثماني مجلدات وهو محدِّث الديار الشامية. ومن آثار ابن عساكر التي لم تأخذ طريقها إلى الشهرة (كشف المغطِّى في فضل الموطَّا)… وما إن استكمل ابن تيمية معارفه في اللغة والتاريخ والبلدان حتى تطلع إلى المناصب، فحاز بعضها وهو في العشرة الثالثة من عمره… ومما أفاده من عمله اكتسابه القدرة على المحاورة والاجتهاد. وعملاً بالمقولة المعروفة (ومن العلم ما قتل) كانت اجتهاداته وراء سجنه وموته في السجن. ولعل كتابه (الرد على الدهريين) أهم إنجازاته من حيث موقعه هو, ومن حيث قدرة هذا العمل على مجابهة العلوم التجريبية والمعارف الفلسفية في عصره.

ففي القرن الرابع عشر والنصف الأول من القرن الخامس عشر يتضخم القاموس السياسي ليواجه القاموس الفقهي بعد أن تمت المصالحة بين الفقه والسلطة، ولاسيما بعد مرحلة ابن خلدون. ولم يقف ابن تيمية هنا فقد كتب من موقع المعاداة للصوفية (الفرقان بين أولياء الرحمان وأولياء الشيطان). ثم أنجز (الرسائل) ليضع جل ما عنده في (الفتاوى). وتلك الفتاوى أغنت الجانب الأحادي في الإسلام وأقصت إلى حد بعيد البنية الإشكالية للوجود، التي شُغل الفلاسفة المسلمون بها، وفي مقدمتهم أبو النصر الفارابي (950م)، رغم الاضطرابات الأيديولوجية والسياسية التي رافقت إعادة بناء تلك الإشكالية, مما سمح للإمبراطورية العربية الإسلامية أن تغدو ذات بعد كوني متنامٍ. وبشكل آخر تمت عملية بناء مجتمع ثقافي في بنيته الأم بنى متعددة من أمم أخرى، ومن مواقع متباينة إثنية دينية ثقافية. والجدير بالذكر أن الفارابي صاحب نظرية الفيض ولد في فاراب وتوفي في دمشق، درس في حلب وأقام في بلاط سيف الدولة, ولقب بالمعلم الثاني, ومن أهم آثاره (السياسة المدنية) وفي هذا المصنف العظيم يفصل بين ما هو شرعي وما هو سياسي، وبهذا يؤسس الفارابي لفضاء عربي إسلامي يقوم على الفعل والانفعال من دون إغلاق البنية التي أعاد تشكيلها بنفسه.

وبالعودة إلى ابن تيمية الذي حاز ألقاباً عديدة (شيخ الإسلام، ومحيي السنّة، وإمام المجتهدين)، فقد استشاط في آراء أحمد بن حنبل (ت 855م). ورغم وجوده في الديار الشامية إلا أنه لم يستطع نشر الحنبلية فيها… فورثه محمد بن الوهاب النجدي ت 1792، وهو الداعية الإصلاحي المعروف. وقد عرف أتباعه بـ (إخوان من أطاع الله) وقد كتب (رسالة في كشف الشبهات) من وجهة نظره طبعاً، وأشاع في الجزيرة العربية ما لم يقوَ شيخه ابن تيمية على إشاعته في البلاد الشامية.

دمشق بالأمس واليوم وغداً تحتضن قبر ابن عربي شاهداً على العقلية الانفتاحية وعلى الاعتراف بالتعدد والتغاير, ورغم عدد سكانها المقارب لسبعة ملايين لا يوجد دمشقي واحد لا يعرف الشيخ ابن عربي وكثير هم زائروه حتى غدا أحد معالم المدينة بين الأصالة والمعاصرة. وقد صار قبره محجاً.. والأغرب أن ابن تيمية مقبور في دمشق لا أحد يعرف مكانه إلا علماء الآثار ورؤساء البلديات والمهتمون جداً وما له من موقظ, فالأحادي الإقصائي لا يعترف عليه العقل الشامي خاصاً كان أم عاماً. لقد أهدت دمشق ابن تيمية إلى الصحراء، وهناك لا تستطيع حبات الرمال أن تتحد لتؤلف البنية المركبة, في حين تقبلت غوطتا دمشق آراء ابن عربي, والغوطتان مرويتان من بردى, ومرويتان من مُزونه، ومرويتان من شعرائها ومفكريها ومن مآذنها وكنائسها… فتربة الشام لا تظمأ إلا إلى حرية الفكر والعقيدة.

ويحضرني هنا قول بدوي الجبل وهو أهم من تغنى بها:

يا شامُ عطرُ سريرتي
حبُّ لجمرتِهِ التهابُ
ووددْت لو عُمِرَتْ ربا
كِ وألفُ عامرةٍ خرابُ
مَنْ لي بنزرٍ من ثرا
كِ وقد ألحَّ بيَ اغترابُ
وأضمُّه فترى الجوا
هرُ كيفَ يُكتنزُ الترابُ

العدد 1107 - 22/5/2024