بداية فن المقالة في الأدب العالمي

أشار الدكتور محمد يوسف نجم في كتابه (فن المقالة) إلى أن الأمثال والحكم الشعبية الموجودة لدى كل الشعوب، تشكل بدايات فن المقالة (1).

ونجد بدايات المقالة في أقوال الحكيم الصيني كونفوشيوس (550 ق.م. ـ 479 ق.م)، ويرى الدكتور عبد العزيز شرف أن المصريين القدماء عرفوا شكلاً من أشكال المقالة، فقد كان وزير في مصر، عاش في القرن السابع عشر قبل الميلاد، أي منذ ثلاثة آلاف وسبعمئة عام، واسمه رخمارا، يكتب تقارير حكومية هي شكل من أشكال المقالة (2). ولكن هذه المقالات ما هي إلا تقارير، لا تحمل ذاتية صاحبها، ولم تستمر طويلاً، ولقد أشار إلى هذه الملاحظة الدكتور جمال حمدان في كتابه (شخصية مصر ـ دراسة في عبقرية المكان).

الصورة النمطية في التراث الإغريقي

كتب الدكتور محمد مندور (1907 ـ 1965) في كتابه (الأدب وفنونه) عن الصور النمطية في الأدب الإغريقي، التي يتحدث فيها المؤلف عن نمط من السلوك الإنساني، مثل سلوك البخيل أو الكريم، سلوك الشجاع أو الجبان، أو المنافق، وهي صور مجردة، يقصد بها الترغيب في اتباع سلوك معين، أو التنفير من سلوك آخر.

في الأدب اللاتيني نجد نتاجاً متنوعاً من المقالات والرسائل، ومن أهمها مقالتا (الشيخوخة) و(الصداقة) لشيشرون (106 ـ 43 ق.م)، وهناك رسائل تنسب إلى هوراس وكونتليان.

وفي التراث العربي نجد الرسائل العربية، التي كان يطلق عليها أحياناً (الفصول)، مثل رسائل الجاحظ (780 ـ 870م)، وبديع الزمان الهمذاني، والخوارزمي، وعبد الحميد الكاتب، ورسالة (الصحابة) التي وجهها عبد الله بن المقفع إلى الخليفة المنصور، و(رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري (973 ـ 1057). ويرى الدكتور عبد اللطيف حمزة في كتابه (أدب المقالة الصحفية في مصر) أن الجاحظ هو أول كاتب مقالة صحفية في الأدب العربي، لأننا نجد في رسائل الجاحظ رأياً ذاتياً، وهذه الصفة هي إحدى صفات المقالة.

يتحدث الجاحظ في رسالة (الأوطان والبلدان) التي حققها د. عبد السلام هارون عام 1998 عن أهل البصرة الذين عرفوا ظاهرة المد والجزر. ويرى الجاحظ أن بحر العرب، أي الخليج الذي تطل عليه مدينة البصرة، من أكثر البحار فائدة، فهو متصل ببحر الهند، أو ما يسمى في أيامنا هذه بالمحيط الهندي.

وكذلك نجد شكلاً من ِأشكال المقالة في مقابسات أبي حيان التوحيدي، فهو يقول في إحدى مقابساته: (إنما تستبان النجابة من الإنسان بالتعليم، والعاجلة تنصرم، والآجلة تدوم). ويقارن في مقابسته بين الشعر والنثر، فيرى أن النثر ليس أقل من الشعر، فنزلت الكتب السماوية نثراً، وليس شعراً، فيقول: (الكتب السماوية وردت بألفاظ منثورة). وكذلك نجد شكلاً من أشكال المقالة في كتاب (الإمتاع والمؤانسة) لأبي حيان التوحيدي.

هناك من يرى أن عصر النهضة الأوربية بدأ عام 1453، ففي هذا العام ظهر حدثان كبيران: الأول اخترع المخترع الألماني غوتنبرغ المطبعة، والثاني فتح محمد الفاتح (1429-1481) القسطنطينية/ إستانبول، وهناك من يرى أن عصر النهضة الأوربية بدأ عام 1492، أي العام الذي اكتشفت فيه القارة الأمريكية على يد كريستوف كولومبس. وهناك تجارب مهدت الطريق إلى المقالة الحديثة، منها كتابات الأديب الإيطالي الكبير دانتي (1265 ـ 1321)، الذي ألف الكوميديا الإلهية، وترك مقالات كثيرة حول موضوعات متعددة.

لكن الإسهام الأكبر في كتابة المقالة يعود للكاتب الفرنسي ميشيل دي مونتين (1533-1592)، ولقد أشار إلى هذه النقطة الدكتور محمد يوسف نجم في كتابه (فن المقالة)، فقد بدأ مونتين الكتابة عام 1571، وخلال تسع سنوات كتب مونتين نحو أربع وتسعين مقالة، جمعها في جزأين.

ولقد أشار الناقد بريستلي في كتابه (الأدب والإنسان الغربي ـ من عصر النهضة إلى عصر التنوير)، الذي نقله إلى العربية الدكتور شكري عياد، إلى أن مونتين استطاع في مقالاته أن يحقق عملاً إبداعياً أصيلاً، فكتب نصاً نثرياً سهلاً وممتعاً، وأبدع شكل المقالة الذاتية، ووجه انتباهه إلى العالم الداخلي للإنسان، عالم اللاوعي، ذلك العالم الغامض والمليء بالأسرار.

المقالة العربية في العصر الحديث

يعود تأخر ظهور المقالة في العصر الحديث إلى أسباب عدة، منها ما يتعلق بفترة انحطاط الأدب العربي، ومنها ما يتعلق بعدم تبلور معنى الفردية، فالفردية برزت في المجتمعات الأوربية بدءاً من القرن السادس عشر بفضل النهضة الصناعية.

ظهرت المقالة العربية متأثرة بحركة الترجمة، وبالاحتكاك بالغرب، وبالتغييرات التي طرأت على المجتمع العربي، وبظهور الصحافة. فقد صدر العدد الأول من جريدة (الوقائع المصرية) في 3 كانون الأول عام 1828، وتولى رئاسة تحريرها رفاعة الطهطاوي عام 1841. وجريدة (روضة المدارس) التي صدرت عام 1870، وتولى رفاعة الطهطاوي الإشراف على تحريرها.

وصدرت في لبنان صحف مهمة منها (حديقة الأخبار)، و(الزهرة)، و(التقدم)، و(النجاخ)، و(الراوي)، و(الأيام).

وصدرت مجلات منها (المقتطف) و(المشكاة)، و(الجامعة) و(الشرق)، وكتب في هذه المجلات والجرائد أدباء مشهورون مثل بشارة الخوري وبطرس البستاني وسليم البستاني وأديب إسحاق.

وفي الوقت ذاته ظهر عدد من الجرائد والمجلات في العراق مثل (الرافدين)، وأدى ظهور المجلات والصحف دوراً مهماً في تطوير فن المقالة العربية.

المصادر والهوامش

1ـ د. محمد يوسف نجم، فن المقالة، ط4، بيروت، دار الثقافة، ص 9.

2ـ د. عبد العزيز شرف، فن المقالة الصحفي في أدب طه حسين، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1986، ص 31.

العدد 1105 - 01/5/2024