إعلام باهت وإعلاميون مبدعون

في التاسع من نيسان 2003 سقطت بغداد أمام الغزاة الأمريكان الذين استجلبهم استبداد نظام صدام المقبور، كما يستجلب كل طاغية الاحتلال لبلده، فيخيرهم بين استمرار طغيانه وفساده واستبداده، واحتلال غاشم يدمر وينهب ويفتت.

في ذلك اليوم كانت كل فضائيات العالم تنقل بالصوت والصورة الحدث الجلل، سقوط عاصمة العراق أمام جحافل الغزو الأمريكي، بينما كان التلفزيون السوري بقنواته الفضائية والأرضية يعرض برامجه الاعتيادية، وقيل حينذاك بأن مدير التلفزيون ووزير الإعلام أغلقا موبايلاتهما فأوقعا العاملين في القنوات في حيرة وارتباك، في بلد لم يعتد أي إعلامي يعمل في الإعلام الرسمي فيه على اتخاذ قرار، دون (توجيه) من الجهات المختصة.

عام 2011 مع اندلاع الحراك الشعبي السلمي، حدث تطور لافت في الإعلام السوري على يد جيل جديد من إعلاميي المصادفة، فكان أن اكتشفت قناة (الدنيا) أن خروج أهل الميدان في مظاهرة لم تكن كذلك، بل إن أهلنا في حي الميدان الدمشقي خرجوا يشكرون ربهم على نعمة المطر.

وجرى الزج بجحافل من المحللين والخبراء يجعلون حتى الرضيع يفرنقع من الضحك، من قصص (سندويشات) الكباب والمياه المنشطة التي تُرش على المتظاهرين، إلى نفق بابا عمرو الذي يصل إلى البقاع اللبناني ويتسع لسيارات كبيرة ومخدّم بالكهرباء والهاتف والتكييف، إلى مجسمات المدن والساحات السورية التي صنعت في قطر لعرض مظاهرات وهمية!! إلى حبوب الكبتاغون المخدرة التي ضبطتها الفضائيات السورية وقد طبعت عليها قناة الجزيرة اللوغو الخاص بها، ولم تكتف بذلك بل طبعتها على الأكياس التي تحتويها… إلى ما لا يحصى من أكاذيب ساذجة جعلته يرتقي عرش الإعلام العالمي في هذا المجال.

في 7/4/2015 كتبتُ على صفحتي في الفيسبوك : شارك الإعلام السوري الرسمي بفعالية في الفعالية التضامنية مع جريدة (الأخبار) اللبنانية ضد الحملة السعودية الوهابية عليها.. (لحدّ هون منيح. الله يعطيهن العافية، بس السؤال الذي يطرح: ليش لهلأ (الأخبار) ممنوعة من دخول سوريا؟؟؟
مو غريبة؟!

هذه- للأسف الشديد- عينات فقط من الأداء الإعلامي السوري خلال الأزمة وقبلها.

لكن لا يمكننا جلد إعلامنا بهذه القسوة دون الإشارة إلى أن الإعلاميين السوريين مميزون، وينجحون ويبصمون حيثما حلوا، سواء في الإعلام السوري، أم في غيره؟؟ وهذا يؤكد أن سوء الأداء الإعلامي هو جزء من سوء الأداء السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي طبع العقود الماضية، ولا يمكن أن يكون الإعلام خارج هذه الحالة الوطنية التي تميّزت بغياب الديمقراطية وطغيان الفساد وتغوّله، ونمو فئات النهب الطفيلي والبيروقراطي وتصدرهم المشهد الوطني.

بقي أن نشير إلى أن ما سمي بـ(قنوات التحريض والفتنة) و(الشريكة في سفك الدم السوري) وهي قنوات تابعة لأطراف ضالعة في حرف مسار الحراك الشعبي وتحويله إلى صراع مسلح وطائفي بعيد كل البعد عن تطلعات الشعب السوري نحو تغيير وطني ديمقراطي حقيقي، هذه القنوات كانت وما زالت ترتكب أكاذيب أكبر وأخطر من فضائياتنا المحلية، لكنها ترتكبها بمهنية وحرفية تجعل تأثيرها في المشاهد العادي أقوى بما لا يُقاس من فضائياتنا.

وينسحب الأمر على المواقع الإلكترونية التي سحبت البساط إلى حد كبير من تحت الفضائيات، وأصبحت أقوى منها تأثيراً  في الرأي العام وإقناعاً للمتابع ووصولاً إليه، فالمواقع الإلكترونية  السورية التي حاولت الخروج من ربقة الإعلام المرئي الباهت اصطدمت بالعقليات التعبوية التي تريدها أبواقاً لترديد مقولات ساذجة ومكشوفة، رغم أن البعض القليل من المواقع الإلكترونية استطاع أن يترك بصمة في هذا الجو المقيت ويؤكد حضوره رغم كل العوائق.

السبب الأول والأهم في هذا التخلف الإعلامي هو غياب إعلام وطني حر، إضافة إلى تغلغل الفساد والمحسوبيات داخل الجسد الإعلامي كجزء من الحالة العامة في البلاد. والحل يكمن في الانفتاح على الآخر المختلف وطنياً ومن ثم إعلامياً، وإفساح المجال أمام القنوات الخاصة الخارجة عن إطار القنوات مُسبقة الصنع، لتقديم منتج إعلامي واعٍ وهادف ومقنع للمشاهد السوري والعربي والعالمي أيضاً، وهذا مرهون بانقشاع سحب الحرب عن سورية جديدة علمانية ديمقراطية سيدة.

العدد 1105 - 01/5/2024