الوجود باللغات

لا يكاد الباحث أو المهتم يركن إلى مباحثه وهو ينشغل بالمسألة اللغوية، حتى ينصرف ذهنه إلى الأعلام الذين أسسوا له ولغيره فكرة الاعتراض والمواجهة والنقد. ومن هؤلاء الذين ما تزال أيديهم تحتفظ ببياضها في الذاكرة الفردية الفقيه واللغوي والطبيبُ والرياضي أحمد بن عبد الرحمن اللخمي المعروف بابن مضاء القرطبي (1118-1196م). وابن مضاء هذا مولود بفاس المغربية، وبعد أن جمع علوم عصره من أطرافها (اللغة، الفقه، الطب، علم الكلام) تبنى المذهب الظاهري، ثم تبوَّأ مركز (قاضي القضاة). ولم ينسَ نصيبه من الشعر، وكغيره من الفقهاء والمتكلمين جاء شعره نظماً لا روح فيه. وعندما طمح إلى مشروع فكري يجمع فيه بين علمَيْ الرياضيات والطب التجريبيين من جهة، وبين (علمي) الفقه الظاهري والنحو من جهة أخرى، كتب مشروعه النقدي تحت عنوان (الرد على النحاة)، دعا فيه إلى إلغاء نظرية العامل (مركزية المعنى). ثم نسف الأقيسة المشتقة من الفقه ورفض العلل والتقديرات الناجمة عن فيض الفراغ للمشتغلين بالفقه واللغة، ولاسيما في القرنين الهجريين الأول والثاني. وقد احتمى بالمناخ السياسي لدولة الموحدين (1129-1269).

 ثم وسّع مشروعه في كتاب آخر هو (المُشرق في إصلاح المنطق)، ثم استفاض في التأليف ليكتب (تنزيه القرآن عما لا يليق بالبيان). وفي هذا الكتاب ينسف صنعة البلاغة ومسألة التكسب بها، في الوقت الذي كان البلاغيون العرب وخاصة الجيل الأول منهم قد انشغلوا في تأصيل الأصل الإلهي عن طريق الأدلة اللغوية للذكر الحكيم. وهنا تكتسب العربية سمة القداسة نفسها التي للقرآن. وبهذا يتجاوز الدرس البلاغي الحدود اللغوية والحدود الدينية ليفصح عن (رهان اجتماعي قديم) كما نسف نظرية النحو المتركزة حول ذاتها..

 ومهما يكن من أمر الرجل فإنه استشعر خطر هذه العلوم (الفقه، النحو، البلاغة) من حيث هي عوامل معيقة أمام المشروع الثقافي لدولة الموحدين على الخصوص، ولعلماء الأندلس في الطبيعيات والفلسفة على العموم… وقد شغل بمسألة الإصلاح اللغوي على أن اللغة هي الحامل البنيوي لمشروع الأمة وفكرها، ولم يشأ – علناً – أن يرمي العربية بالقصور على مستوى البنية والوظائف، إنما لجأ إلى إصلاح النحو كعلم تمَّ استقراؤه من مجتهدين، يمكن لبشر آخرين مجتهدين أيضاً أن يتجاوزوهم.

وفي القرن الثامن عشر ظهر العالم التجريبي الروسي ميخائيل لومونوسوف (1711-1766) واحداً من أهم من حملوا مشروع الإصلاح بعد أن أسس لعلمي الفيزياء والكيمياء، واستطاع إيجاد علم واحد يجمعهما في بلاده. وقد نجح في دراسة (صناعة المعادن). ومن أهم مقولاته خطابه في 1751 حول فائدة الكيمياء، ثم شدد في كتابه (عناصر الكيمياء الرياضية على مفهوم النبوءة). ووجد أن أصحاب المعاني الغامضة هم أعداء المنهج والنبوءة، والغريب أن لومونوسوف اهتم جداً بالشعر، واهتمامه بالشعر دفعه إلى الاهتمام بالتاريخ، فكتب تاريخ روسيا (1755) وكلا العلمين أوصلاه آلياً إلى (الفيليلوجيا). وهنا يحقق أهم إنجازاته وهو كتابه (اللغة الروسية) – 1756. ولأنه آمن بالتطور كفعل طبيعي أنبأ في كتابه (حول طبقات الأرض) 1763 عن التطور في عالم الأحياء، كما في عالم الطبيعة. وكان هذا هو الأساس الذي اتبعه لمواجهة الآراء اللاهوتية. ولم يُخفِ اتجاهه المادي في التفكير ونزعته التجريبية. وكان يقول (إن الجمع بين المناهج التجريبية والتعميمات النظرية كفيل بمفرده لتلمس الحقيقة). وكان هذا القول مدخله إلى تفهم عصر الأنوار الفرنسي ذي النزعة النظرية. وكل ما تقدم كان كفيلاً ليدخله في نزاع مع الكنيسة الأرثوذكسية. وقد تبادل وإياهم القذف، فرماهم بالجهل منكراً فكرة الوحي المسيحي، ورموه بالإلحاد.  وفي الطور الأشمل والأعمق من معرفته اتجه إلى البحث اللغوي، فوجد (الروسية) غير مؤهلة لانطلاقة مشروع الأمة في الفلسفة والتجريب، فانصرف إلى البنية النحوية وأخضعها إلى عمليتي الحذف والاصطفاء، فألغى شذوذات القواعد وتفرعاتها، ثم تدخل في البنية الصرفية (صوائت – صوامت) من خلال قدراته التجريبية. وبعيداً عن التفاصيل استطاع لومونوسوف أن يجعل من (الروسية) أداة لإمبراطورية تدخل عالم الفكر من بوابتين: الأولى العلوم التجريبية، والثانية الأدب الروائي وعلى الأخص أدب القرن التاسع عشر. ويبدو أن تأسيساته كانت المهاد المهيِّئ للشكلانيّة الروسية التي نشأت في العقود الأولى من القرن العشرين.

ومما أرى لازماً التذكير به هو مشروع النهضة العربي (1798-1948) الذي قام على الانبهار المستغرق بما قدمته الأجيال الهجرية الأولى، ولاسيما في النحو والفقه والشعر، حتى وصل الأمر بدعاة النهضة إلى أن رفعوا الشعر والنحو إلى مرتبة القداسة. على أن النحو هو قدس داخلي لقدس أعم وهو اللغة، ويذهب غلاة العربية ومنهم نعمة الله الجزائري في كتابه (النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين) إلى أن العربية لغة آدم، وهي لغة الجنة، وحين عصا آدم ربه جعل الله السريانية لغة له) وهنا تدخل العربية على أيدي الغلاة بها طور الأسطرة، فتخرج بالضرورة من الحيز التاريخي إلى الفضاء اللاهوتي على أنها فوق المراجعة والنقد.

وهذه الأسطرة ليست ببعيدة عن أسطرة الأصل الواحد للغة التي جاءت في التوراة سفر التكوين الإصحاح -11- (وكانت الأرض كلها لساناً واحداً ولغة واحدة، فقال الرب هو ذا شعب واحد ولسان واحد لجميعهم، وهذا ابتداؤهم بالعمل. والآن لا يمتنع عليهم كلُّ ما ينوون أن يعملوه). ثم تجرى الحوادث، فيقول: (هلمَّ ننزل ونبلبل هناك لسانهم، حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض). فإذا كان التعدد اللغوي عقاباً فإنه في عصر العلوم التجريبية ضرورة تاريخية لا كأداة للتفكير وإنما كشكل للوجود.

وبعد أن سقط مشروع النهضة العربي على مراحل 1948-1967-1991 وهذه الأرقام تشير إلى وقائع مهمة يعرفها القارئ، لابدّ من المراجعة على المستويات جميعها، ومنها بالضرورة اللغة. ولغتنا العربية – على أهميتها وتاريخها وتاريخيتها – لم تعد قادرة على معايشة العصر الذي استكمل جدول أعماله في باطن الأرض وأعالي البحار وأجواز الفضاء. وما إن يستكمل العالم الجديد مشروعاً حتى ينبثق مشروع يبدو أهم وأكثر ضرورة، ولغات العصر كشجرة الزيتون تحتفظ بأوراقها الخضر، أما الأوراق اليابسة فتسقط على الأرض وفي سقوطها وانبثاقها عملية حيوية للغة كأداة، وللأمة كمشروع وجود نوعي يتجاوز الوجود الطبيعي.

وفي إثر هذا وذاك نقترح على وزارة التربية أن تغني الناشئة في تعليم العربية بأساليب عصرية تخلّص الأجيال الجديدة من الوهم والإيهام، وتحيلهم إلى واقع بشري لا أسطوري مع المنجز في الشعر والبلاغة والنحو وفي نظام الجملة. ومن طبيعة اقتراحنا تغذية المنهاج التربوي بالحس النقدي على حساب الحس التسليمي والذهن الانبهاري، وإغناء التعليم الأساسي بمنهجية السؤال والابتعاد عن سكونية الجواب.

ونقترح أيضاً التزيد في تعليم الإنجليزية التي فرض العصر التقني والفني والثقافي وجودها منذ بدايات القرن العشرين. وما كانت الإنجليزية لتغدو لغة العالم لولا بنيتها النحوية المرنة، ولولا قدرتها على الأخذ والعطاء. إنها ببساطة لغة من التاريخ وليست لغة التوراة ولا الأساطير ولا اللاهوت ولا غير هذا، ولأنها من التاريخ تمكنت منه.

وبالمقابل فإنني أدعو إلى إقصاء الفرنسية من المرتبة الثانية، من اللغات الأجنبية، فالفرنسية لم تعد اللغة التي ينبغي الاحتفاء بها، فقد تقدّمتها الإسبانية والروسية والألمانية. فإذا كان المشروع الفرنسي يتوجه بالعداء لوجودنا السياسي والثقافي كدولة وكمجتمع، فإن آلية التبادل بيننا وبين الدولة الفرنسية تتراجع بالضرورة. ولكن لابد من وجود المهتمين بها على صعيد الدبلوماسية والتجارة وغيرهما… على الرغم من أن النخب السورية التي جندت نفسها في صالح المشروع الأصولي ما تزال تعتز ب (فرنسيتها)، وهي نفسها على (الأغلب) لم تقدم مشروع ترجمة لعصر الأنوار الفرنسي وتجليّاته، إنما اكتفت بنقل ما هو خادم لمشروع المركزية الأوربية. وفي إثر هذا… نتزيَّد في الاقتراح ونرى ضرورة نشر اللغة الروسية في أروقتنا السياسية وأكاديمياتنا ومؤسساتنا التربوية، وهذا الاقتراح ينسجم مع سياسة (لنتجه شرقاً). والاتجاه لا يكون جغرافياً، إنما هو مشروع على مراحل يشمل إعادة التهيكل الاقتصادي  وإعادة بناء القناعات بعد أن (كشّر) العرب قبل الأطلسي عن أنيابهم القروسطوية على المستويات كلها. والكوادر السورية التي تأهلت علمياً – بالروسية – في الزمن السوفيتي مستعدة لتأدية مهمة الانتقال من الغرب الفرنسي إلى الشرق الروسي.. ولكن المسألة تحتاج إلى قناعة سياسية لتصبح قراراً.

وعلى المستوى الأكاديمي فقد تأخر تأسيس قسم للغة والأدب الروسيين، علماً أن المختصين بهما يشكلون كادراً أكاديمياً لكل من في الجامعات الحكومية.. ولن تبخل المؤسسات الروسية بإغناء المكتبة الخاصة بالأدب الروسي، ولها في هذا عهدة والعهدة تشمل أيضاً تهيئة الكوادر الروسية للقيام بهذه المهمة الملحة، وقد يرسل الروس كوادرهم – كما فعلوا سابقاً – إلينا، وسوف تكتشف ناشئتنا وأجيالنا الأكاديمية قيم الأدب الروسي الإنسانية والتاريخية. فيقرأ السوري وهو على مقاعد التحصيل تولستوي إلى جانب المعري، ودوستويفسكي إلى جانب التوحيدي. وسيعقد أواصر الصلة بين ديك الجن وليرمنتوف. وإذا كنا ندعو إلى التعامل مع الروسية كلغة ثانية أجنبية فهذا لا يعني أبداً تبعية ثقافية، إنما يعني الاعتراف بالواقع والتعامل مع المستقبل بما تمليه المصالح الاستراتيجية، حتى لا نبدو أغراباً عن العالم الذي بدأ يتغرب بفعل (الأعراب).

إنني أجد في استعادة مشروع ابن مضاء في القرن الثاني عشر الميلادي، ولومونوسوف في القرن الثامن عشر على الأرض السورية، لقاء يفتح زمناً جديداً يلتقي فيه العقل النقدي والعقل التجريبي لقاء شرقياً تنصرم معه الأوهام بالذات وبالآخر.

العدد 1107 - 22/5/2024