سيناريوهات الثقافة العربية في القرن الحادي والعشرين

الحديث عن الثقافة العربية في القرن الحالي يبدو أمراً شديد الصعوبة، لأن التنبؤ بصفة عامة أمر يحتاج إلى استقراء ما يمكن أن يسفر عن تطور الأوضاع الراهنة لظاهرة معينة. وكل ظاهرة كما هو معروف لها تركيبها المعقد، وهو ما يعني ضرورة دراسة ما يمكن أن يسفر عنه هذا التركيب من احتمالات تطور في اتجاهات مختلفة ووفقاً لسيناريوهات متنوعة. إذا أردنا أن نتنبأ بمسار تطور ظاهرة ما بصفة عامة، فإن الاتجاه العام للدراسات المستقبلية يميل إلى التعامل مع كل الظواهر، حتى البسيط بطريقة مركبة، على اعتبار أن الظاهرة نفسها قد تكون بسيطة في حد ذاتها، بمعنى أن خط تطورها تحكمه مجموعة محدودة من العوامل الداخلية. ولكن هذا لا ينفي أن علاقة الظاهرة بغيرها من الظواهر والمتغيرات يصعب، إن لم يكن يستحيل، أن تحكمه مجموعة محدودة من الروابط والعلاقات المتغيرة، حتى لو كانت ظاهرة عارضة أو هامشية.

الثقافة بصفة عامة، والثقافة العربية بصفة خاصة، لا يمكن أن تعدّ ظاهرة بسيطة من حيث طبيعة تركيبها البنائي الداخلي. ومن ناحية أخرى فإن الثقافة العربية وثيقة الصلة بأغلب الأوضاع والظواهر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في عالمنا العربي، ولهذا فإن حال الثقافة العربية في القرن الحادي والعشرين يقتضي منا في البداية أن نحاول التعرف على طبيعة العلاقات التي تربط بين الثقافة العربية وبين مجمل الظواهر والأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكل ذلك ينبغي أن يقودنا في النهاية إلى وضع تصور عن ملامح السيناريوهات أو الأوضاع المختلفة التي يمكن أن تتطور في ظلها الثقافة العربية.

 

مكونات الثقافة العربية

يختلف الباحثون كثيراً حول طبيعة مكونات الثقافة العربية، وأغلب هذه الخلافات تنبع من تقديرنا لتحيز الباحث إلى هذا المكون أو ذاك، إلى الحد الذي يصل به إلى تجاهل أحد المكونات أو بعضها، في محاولة لإعلاء شأن مكون آخر يراه أكثر أهمية من وجهة نظره. وإذا نظرنا إلى الثقافة العربية من داخلها بنظرة موضوعية فمن السهل أن نلاحظ أنها تتكون أساساً من أربعة روافد أساسية هي بالتحديد:

أولاً- الثقافة السلفية الموروثة: وهي ثقافة مكتوبة في أغلبها بلغة عربية صعبة الفهم للجمهور الواسع، وتنقسم بصورة عامة إلى ثلاثة أقسام: الأول يرتبط كلية بالإسلام والعلوم المختلفة المرتبطة بشرحه وتفسيره، وهذا القسم تم إحياؤه في الآونة الأخيرة مع موجة التدين التي اقترنت ببروز ظاهرة  الإسلام السياسي، حتى إن البعض يكاد لا يرى في الثقافة العربية الموروثة والسلفية سوى هذا الجانب بسبب تأثيرات هذا الجانب المباشر على الحياة الفكرية والسياسية الآن. ولكن هذا غير صحيح لأن القسم الثاني من الثقافة الموروثة وهو الأدب العربي يبدأ من الشعر الجاهلي الذي وصلنا حتى ذروة ما وصل إليه الأدب العربي في العصر العباسي، هو أيضاً ثقافة سلفية وموروثة ومؤثرة بصفة عامة في ثقافتنا العربية الحديثة والمعاصرة إلى حد كبير. وهو تأثير يتجاوز الأدب بمعناه الضيق ويمتد إلى نظم القيمة وطريقة التفكير أيضاً، باعتبار أن بنية اللغة تساهم في تطور العقل العربي نفسه. أما القسم الثالث من الثقافة الموروثة فهو القسم الذي يعالج كل ما هو غير ديني أو أدبي. وليس خافياً أن ما يندرج تحت هذا العنوان الفضفاض لم يكن عند السلف مصنفاً إلى علوم متميزة وقائمة بذاتها، مثل الاجتماع أو الاقتصاد أو التاريخ، وإنما كان إما إرهاصات تشكل هذه القطرات الأولى لهذه العلوم أو بداياتها، وإما خليطاً غير متجانس من بدايات وإرهاصات أكثر من علم من هذه العلوم وقد اختلطت فيما بينها.

ثانياً- الثقافة الشعبية: ونقصد بها المكون الثقافي الذي كان موجوداً قبل دخول الثقافة الغربية، في العديد من المجتمعات العربية. إذ نلاحظ في هذه المجتمعات مكوناً ثقافياً شعبياً تناقلناه عبر الأجيال من خلال العادات والتقاليد، أو من خلال أدوات شفهية مثل الراوي أو الشاعر الشعبي  وفي تضافره مع المكونات الثقافية الأخرى  أكثر من وجهة للثقافة العربية في أكثر من مجتمع عربي.

ثالثاً- الثقافة الغربية: إذ نعرف جميعاً كيف أن الثقافة الغربية منذ دخولها إلى العالم العربي مع الحملة الفرنسية حتى الآن قد تسللت كقيم وأفكار وأساليب تفكير إلى الثقافة العربية، حتى أصبحت أحد مكوناتها التي قد تزداد في هذا الوسط أو تتضح في تكوين هذا المثقف أو تضمحل، ولكنها تظل موجودة بقدر أو آخر هنا أو هناك بكل ما تمثله من حضارة مختلفة وأكثر تقدماً من زوايا كثيرة وبمعايير متنوعة.

رابعاً- الثقافة العربية الحديثة: وهي تلك الثقافة التي نجح الرواد الكبار من المثقفين العرب في تركيبها من المصادر الثلاثة السابقة، وهي لا تساوي حاصل جمع جبري للمصادر السابقة، كما أنها لا تعبر عنهم معاً، وإنما هي مكون رابع نجحت في إبرازه إلى حيز الوجود عملية هضم وخلط المكونات الثقافية بحيث ظهر من خلال إبداع رجال، مثل محمد عبده وطه حسين، وتوفيق الحكيم، وحسين فوزي، وأحمد لطفي السيد، وسلامة موسى، وغيرهم، هو مكون جديد يسهم إلى جوار المكونات الثلاثة السابقة في بناء ثقافتنا المعاصرة.

 

سيناريوهات مختلفة

الثقافة العربية الآن من خلال كل ما تقدم هي تركيب معقد ومتنوع من المكونات الأربعة السابقة، وتختلف نسب مكونات هذا التركيب من مثقف إلى آخر، ومن بيئة ثقافية إلى أخرى، ومستقبل الثقافة العربية في القرن الحالي لن يقضي في الغالب الأعم على واحد أو أكثر من هذه المكونات، وإنما سيغير فقط من نسب مساهماتها، وقد يأخذ مسارات مختلفة وفقاً للسيناريوهات المجتمعية التالية:

أولاً- أن يصل الإسلام السياسي إلى سدة الحكم كما حدث الآن في العراق وتونس ومصر، ولا نعرف القادم في هذا القرن، وهو ما يعني بالضرورة ووفقاً لهذا السيناريو أن يتزايد نقل السلفية الموروثة حتى تحتل مركز الصدارة من التركيبة الثقافية على حساب جميع المكونات الأخرى تقريباً، إلى الحد الذي قد تطمس فيه قصداً وقصراً هذه المكونات الأخرى، إذ نعرف جميعاً أن السلفية الموروثة التي يقوم بإحيائها الآن بصفة عامة الإسلام السياسي، هي ثقافة منتقاة لتأكيد طريقة استبدادية واستعبادية في إدارة المجتمع، ومن ثم فإن المستدعى من السلف هنا هو ما يخدم هذا المنحى فحسب. وفي هذا الإطار إذن نحن نتوقع أن وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم في بعض الأقطار العربية لن يؤدي إلى قوة المكون الموروث السلفي الديني بشكل تلقائي فحسب، بل إن ذلك سيؤدي أيضاً إلى قمع وتحجيم المكونات الأخرى بالصورة التي قد تؤدي إلى تراجعها وحصرها.

ثانياً- أن تستمر الأوضاع الراهنة، وهي أوضاع تستمد الأقطار العربية فيها جزءاً من مشروعيتها  ويتفاوت من بلد إلى آخر  من المكون الديني، وتحتل فيه الثقافة الموروثة السلفية الدينية ثقلاً متميزاً نتيجة مناخ التدين السائد الذي يتضافر مع قوة الإسلام على مسرح الحياة السياسة. ولكن وفقاً لهذا السيناريو فإن الدول العربية تستمد مشروعيتها أيضاً من منابع أخرى إلى جوار المنبع الديني، بعضها ديمقراطي وبعضها قومي، وهي مكونات عصرية تضع الثقافة في احتكاك بالعصر والعالم. وتسعى الدول العربية بصفة عامة وفقاً لهذا السيناريو إلى مد الجسور بينها وبين تميزها الخاص  أي ثقافتها الشعبية، وكذا فإنها تسعى وفقاً لهذا السيناريو أيضاً إلى الحفاظ على جسور معقولة مع الغرب.

ترى إلى أين سيمضي بنا المستقبل العربي في القرن الحادي والعشرين؟، هل سيتاح لثقافتنا العربية أن تبقى وتستمر وتزداد عمقاً وثراء من خلال انفتاحها على الثقافات الأخرى من ناحية، وانفتاحها على التراث من جهة أخرى؟ إن الأمر مرهون إلى حد كبير بإرادة النخب العربية ومدى قدرتها أن تلحق بركب تطورات القرن الحادي والعشرين.

العدد 1105 - 01/5/2024