الخيال أو المخيلة.. القوة التي توجه العبقري

يلعب الخيال الدور الأهم، بل الدور الأوحد إلهاماً وعذوبة وشفافية في صياغة القصيدة التي ينسجها شاعر حقيقي مبدع، يملك روح الشعر، والمَلَكات والذهنية المؤهلة لاستنهاض ذلك المبدع، والذي يفعل الخيال لديه فعله المثير والمؤثر، بحيث يكون الخيال، أو المخيلة القوة المطلقة التي توجه العبقري إلى عبقريته الفذة الكامنة فيه. تطلقها تلك القوة عالياً، وصعوداً إلى حيث يجب أن تكون.. عبر فضاء يفسح المجال لذلك المغنى الشجي أن يندفع على امتداده ليصل صداه إلى أبعد ما يمكن للصدى أن يصل: بقوة مغناه، وسحر خياله، وروعة تلك العبقرية التي أبدعته، وأنتجته.. يقول ديدرو: (إن من حق العبقري أن يكون ضارياً.. إن كتاباته كالشرارات المتقدة الخاطفة، وهو يحلّق كالنسر المسحور بروعة أفكاره).

قول يجعلنا نقف كثيراً أمام كتابات عابرة، أرهقت وأثقلت نسيج الفعل الإبداعي الأجمل والأشفّ، فوق ساح ثقافة العطاء والإبداع.. ذاك هو الشعر، الذي يشكل في الوجود مغناة الحياة الرائعة، وجمال الكلمة: الموحية، والمعبرة والمؤثرة، والتي أنتجتها مخيلة/ عبقرية، تحمل كينونة خصوصية حادة، وفائقة العذوبة لتنتج تلك المغناة الخالدة، التي حاكت نسيجها روح الإلهام، والتجلي المفرد ذاتاً، وطاقة إيحائية، لتصوغ مثل ذلك الإلهام الآسر إلى حدّ العذوبة والوجع!

أليس هذا هو: (طغيان الخيال أو المخيلة المتسلطة التي سيكون لها أكبر الأثر على الشعر فيما بعد؟!).

 الشعر الذي يقول فيه نوفاليس: (هو الوجدان الأصيل كالنور، يشبهه في هدوئه وحساسيته ومرونته ونفاذه.. وهو في قدرته على التأثير القوي غير الملحوظ أشبه بهذا العنصر البديع الذي ينتشر فوق جميع الأشياء بميزان دقيق، ويجلوها جميعاً في مظهر متنوع أخَّاذ. إن الشاعر من الصلب الخالص، وهو في حساسيته أشبه بخيط من الزجاج الهش، ولكنه كذلك قاس كالحصاة الجامدة).. هذه المنمنمة المتقنة عن الشعر والشعراء، كأنها الميزان الأدق حساسية في العرف الإبداعي، إذ ترسم أدق التفاصيل لمفهوم الشعر الملهم، والشعراء الملهمين، وتخرج من هذه الدائرة المنضبطة حد الخيال في دقة مفاهيمها وتعريفها: من هم لا يقاربون المفاهيم والتعريف من قريب أو بعيد؟! لقد توصل القارئ العربي إلى نتيجة مؤلمة وموجعة جداً تذهب في تصورها الرمادي القاتم للشعر والشعراء في الوضع الراهن أن ما تطرحه المطابع الماجنة لسوقها الاستهلاكي من منتجات كتابية.. سيئة ورديئة وضعت الساحة الثقافية في دائرة خلل..، وإرباك، وارتباك، لا مثيل لها في تاريخ الثقافات والإبداع. وإن الشعر هو المتضرر الأكبر مما يحصل الآن، وإن عزوف القارئ عن قراءة الشعر يعني أن هذا المنتج الإبداعي قد وصل إلى دَرَك غاية في السوء، أخرجه من مفهوم تاريخي خالد.

يقال: إن (الشعر ديوان العرب)..! ومع هذا نقول: إن القارئ الجيد لو بحث عن البضاعة الجيدة لوجدها، وإن الزمن كفيل بعملية غربلة قاسية وحاسمة لوضع الأشياء في نصابها، وإعادة الاعتبار لأعظم فعل إبداعي في تاريخ الحياة، وفي تاريخ الثقافة، والأدب، والإبداع.. ذاك هو الشعر الذي قال فيه نوفاليس: إنه التعبير عن الوجدان، إنه أشبه بالسحر يضفي الروح السحرية على العالم.. إنه الواقع الأصيل المطلق عامراً بالأنغام التي لا تنفد.

العدد 1107 - 22/5/2024