تروبادور عربي

ستظل الغنائية التراثية العربية بأنساقها التاريخية المتعاقبة، لزمن أطل ثم غاب، قيمة فذة في سياق تاريخ شعرنا العربي الغنائي، وستظل الذائقة السمعية تحنّ بلهفة توقها ووجدها للماضي العريق الذي أبدع في أدبياته الموشحات والمقامات والترانيم الشفافة الموجعة المقاربة لشجو النايات وتسابيح الهديل على قباب الفجر السماوية ذات الزرقة الأخاذة، التي ستحتفظ بتلك الترانيم والغنائيات والتسابيح في مدارها السماوي إلى الأبد، لأن الشعر الذي أبدعها خالد إلى الأبد. وكذلك في أدبيات الموسيقا التي رافقت المغنى الشعري الدفاق بدفقاتها الساحرة، عندما تجعل من توليفة نسيجها عبقاً فائضاً بينابيع الصبابات والصبوة والجمال، عبر تسميات هي أيضاً قائمة دائمة في الزمان والأذهان مروراً على النهوند والصَّبا وامتداداً إلى النغمات كافة، تلك التي تشكل بمجملها – شعراً ونغماً وفائض عذوبة كالمستحيل – تاريخ ثقافتنا وحضارتنا، ووجودنا الحي الخلاق ضمن النسق الإنساني المفعم بالعطاء والمتوهج بديمومة الألق والنضارة على مدى الدهر كله. من هنا، ومن مجمل تألقنا الحضاري عبر التاريخ نفخر عندما نرى الغنائيات الإسبانية المتعاقبة تتكئ في أساسياتها الحيوية المتألقة على ما بثته فيها الموشحات والغنائيات الأندلسية. وأن (التروبادور الإسباني) بإيقاعاته ونغماته ما هو إلا صدى للأصل العربي الفاتن، الذي منحه قيمه وعناصر خلوده واستمراريته على الدوام.

 هذا ما كان! فأين نحن مما كان؟ ليس على صعيد الفكر والمجد الحضاري الغابر! والتراثيات والمتوارثات الفذة بعبقها الجليل الفاتن البهي، ولكن على امتداد الصعد كافة تلك الغائبة في حرج الأسئلة الجارحة؟!

وإذا كان الحفر العميق في الأسئلة سيذهب بنا في مظانَّات الوجع دون الوصول إلى منافي أجوبة شافية، فهل علينا أن نقف عند جحيم تلك المظانات دون الوقوف على جواب؟! نحن الآن الطوافون بين فردوس الغبار، وفردوس الغياب، وغابات السراب والاحتمالات الظنية! على أي وسادة وجع ننام لنحلم بتجاوز المستحيل، والخروج من دوائر العتمة والهوامش القاتمة؟! كيف يمكننا، ونحن على ما نحن عليه، أن نقوم مجدداً بصياغة التروبادور العربي في إطار نهوض فاعل وحيوي لكوامننا كافة، وهي مليئة بالطاقات والإمكانات والحوافز الممتازة لإعادة بناء وهيكلة اعتباريات أننا من التاريخ والمجد والحضارة، وأننا كتلة من المؤهلات والقيم يمكن الاستفادة من مواصفات تلك الكتلة لإعادة جدولة تحركنا الراهن على أساس منطلقات جديدة وجادة وبناءة للصعود من منزلة ومنازل البنى الدنيا لواقعنا الهش الراهن، إلى تلك البنى العلوية العالية بامتيازاتها وتطلعاتها، وأساساتها المعاصرة! بدءاً من أدبيات الشعر والنغم وتروبادورات عربية معاصرة بقيمها ومعانيها وفلسفتها وامتداداً إلى شؤون وشجون الحياة كافة.

هل نحن الآن في ميزان القوة قيمة فائضة لا حساب لوجودها، ولا وجود لها في حسابات المصالح والتوازنات المتبادلة؟ ولماذا أصبحنا في بورصات التبادلات والمنافع المادية البحتة قيمة استهلاكية ليس أكثر؟! وخلعنا كل ما يمت للفن والثقافة والحضارة بصلة، وأصبح فائض الخوف والهوان هو السلوكية القاتمة في حياتنا؟!

 نحن نعي هذا كله، ومع ذلك فعجلة الهاوية تهوي ونحن نضحك بغباء للذة ومتعة المشاهد التي تبدو أمام عيوننا كأنها خروج قطارات اللاوعي من سكة السلامة إلى سكة الندامة، ونحن نعي لذة ما لايؤول ولا يُعلل.

العدد 1105 - 01/5/2024