الحلم «الاغتيال» في قصص إبراهيم خريط

 لم يكن حلماً بل حقيقة، أن الأديب إبراهيم خريط صدر له مجموعة قصصية عام ،1997 عن اتحاد الكتاب العرب بعنوان (الاغتيال). وقد اغتالته الأيدي الآثمة في (27 أيلول 2012). وهو الأديب الشهيد ابن دير الزور، مدرّس الفلسفة المتقاعد والمربي الوطني التقدمي.

صدر للقاص سبع مجموعات قصصية، احتلت قصص (الاغتيال) الرقم الرابع. وهذه المجاميع: (القافلة والصحراء – عام ،1989 الحصار، وقصص ريفية- مجموعتان في عام ،1994 حكايات ساخرة ،1999 طقوس الرحلة الأخيرة ،2001 فانتازيا 2005). ورواية واحدة بعنوان، (الرحيل إلى المجهول -2010).

يبدو أن الاغتيال عنوان المجموعة لم يأتِ من فراغ. ومن خلال قراءة القصص يمكن رؤية البُعد الإنساني ومعرفة دلالة الاغتيال الروحي والجسدي، بأشكاله الاستغلالية والبحث عن مصادره الاجتماعية، ومنبعه الأسري- العشائري.

السؤال: هل كان الاغتيال هاجساً في ذهن الكاتب، وبعد خمسة عشر عاماً استشهد مع ابنيه؟

تضمُّ المجموعة القصصية ثماني قصص منها:(الدوامة- المقبرة- القيد- التمثال- النفق…).

تبدأ المجموعة تحت عنوان (فاتحة الكلام) كتقديم، في سطور تنبض حروفها بالحزن ونقاطها بالألم. وتنساب ساقية الذكريات التي لن تذبل أوراقها مهما طال الزمن ودارت عقارب الساعة، لتصب في نهر الحياة الذي لن يتوقف جريانه. يقول:(أحاول أن ألملم شتات فكري ونفسي.. ويتساءل: هل أنا قادر على التعبير؟). هذه الذاكرة المتوقدة تفتح نوافذها على فضاء مخنوق بالضباب وسموم الفقر.. يطلّ منها وجه ابنه المتوفى منذ أعوام.

الحياة المعقدة في تركيبها وتشابكها وتوزعها الطبقي، والركض وراء الرغيف وتأمين الحاجات اليومية لمدرس، ينهض قبل شروق الشمس ليؤمن حاجات الأسرة ويطمئن على الزوجة والأولاد. وهو اغتيال الزمان والمكان في قصة (الدوامة) التي كتبت بضمير المتكلم الذي يلهث مسرعاً على دراجته الهوائية لتأمين الخضار والخبز والسكر والرز، يحسب الزمن بالدقائق.

ويعبر عن اغتيال أحلام صبية كزهرة تفتحت في ربيع العمر، تتزوج رجلاً في العقد الخامس (بديناً أسمر البشرة يميل إلى السواد.. عيناه ثقبان صغيران، في وجهه ندوب وبثور، وقد غاص رأسه بين كتفين مكتنزين كأنما ليس له رقبة..). ويدافع عن الأموات في قصة (المقبرة). ويتساءل: كيف يجعلون الطريق مزبلة؟ أليس للموتى كرامة؟

وهو في الحقيقة يحكي عن الأموات كي يسمع الأحياء نداءه. أما الصوت الخارج من القبر فيقول له: أنت لا تبكي عليهم.. أنت تبكي على الأحياء.. نحن هنا في مأمن لا خوف علينا..! ويعود من المقبرة إلى بيته (القبو) أو (المقبرة). وهذا التشابه محمول على جناحي المفارقة، بين الإنسان الحي والإنسان الميت. أما الصورة فتظهر بوجهها المغاير، ويختل التوازن في المعادلة. فالميت في قبره أفضل من الحي في قبو رطب.. يقول: (خُيّل إليَّ أن مقبرة أخرى قد بدأت تبتلعني).

الأديب إبراهيم خريط ابن البيئة الفراتية، لا تخلو قصة من قصصه من سيرة حياة الطفولة، فهو يستعيد فصول حياته وهو في المرحلة الابتدائية، ويحمّلها دلالة اجتماعية وإنسانية، تعبر عن الواقع الاجتماعي وحياة العوز والفقر. يخاطب أمّه قائلاً: (إنّي أموت من الجوع). فالأب سرّح من عمله بسبب وضعه الصحي. والبحث عن رغيف الخبز أصبح (أنشودة الصباح). وعدم الحصول عليه يعدّ أحد أشكال اغتيال إنسانية الإنسان. والفقر وحش لا يرحم ينهش لحم الأحياء.. الغني يغتال الفقير باستغلاله.. والفقير يبحث عن لقمة يغمسها بالزيت والزعتر إن توفرا خوفاً من اغتيال الجوع. ورغم هذا الاجتياح العاصف لمرارة الحياة وشظف العيش، تصدّه أُمّه وتؤنّبه وتقول له:(لا يعجبك العجب ولا الصيام في رجب). بينما الابن ينظر إليها بعينين حزينتين، لكنهما تخبئان تحت جفنيهما الأمل وإشراقة يوم جديد.. ينظر إلى يدي أُمّه المطوقتين بسوارين من ذهب، صنعا على شكل ثعبانين، كأنهما يلتفان حول عنقه.. هذا هو الواقع الذي يتحدث عنه الأديب إبراهيم. وهذه هي المفارقة بين أم لن تتخلّى عن سواريها ولا عن كبريائها، في المجتمع الذي تسيطر عليه العائلية والقبلية. وهذان السواران أشبه بعقد اجتماعي لأسرة ميسورة في الظاهر، لا يعرف الآخرون ما يجري داخل البيت.

وظل السواران يلمعان في يدي الأم، رغم مرض الأب وموته وعدم توفر نفقات الجنازة. وماتت الأم وتركت السوارين لشراء الكفن ودفع أجرة المقرئ وحفار القبور وكلفة العزاء وتقديم قسم للبائسين.

قصص(الاغتيال) عبارة عن عملية توثيق السيرة الذاتية، تركها الشهيد للقراء وللأجيال، تعبر عن مرحلة ما في زمن ما.. قصص تنبض بذكريات لم تستطع الإفلات من ذاكرة الكاتب، وهي الأقرب إلى قلبه والأحب إلى نفسه. وهي اعتراف بالواقع المعيش، دون خجل من هذا الواقع ومن العودة إلى الماضي.

وقصة(النفق) مثال حي تحكي عن طفل في السابعة من عمره، يحدد الراوي/ القاص الزمن الذي جرت فيه الأحداث. يقول:(لم أكن قد تجاوزت السابعة من عمري، عندما جرت أحداث هذه القصة). وفي هذه القصة يركز الراوي على المظهر الخارجي للطفل، ويصف جسمه بالنحيل وشدة سمرته.. وينتقل إلى البيت الصغير المبني من لبن وطين، تزينه عريشة عنب.

الشخصية(الطفل) ابن الريف، بعد انتهاء المدارس ينتقل من المدينة إلى القرية ويمضي الصيف هناك. وفي الشتاء يعود إلى المدينة ليتابع تعليمه.

قدم له زميله الأسود إغراءات لمرافقته إلى النهر، فأصيب بموجة رعب وهو يسير بجانب جدار، والدخول بنفق كي يصلا إلى البستان.. وأثناء العبور كان النفق أكثر حرارة ورطوبة، وأصبح الطفل يتنفس بصعوبة.

قصص (الاغتيال) من القصص الواقعية، وهذا لا يعني أن الأديب القاص يقوم بعملية استنساخ للواقع، أو كمن يحمل (موساً) ويقطع الحلوى.

لقد كتبت القصص بلغة رشيقة سلسة كان للتخيل دور فيها، إضافة إلى الأسلوب الرشيق والصور الملونة لإبراز التفاوت الاجتماعي، وعبرت المشاهد الحوارية عن المفارقة، وتركت الخواتيم المفتوحة أثراً لدى القارئ.. ولم يعتمد الأديب على التسلسل الزمني، بل كانت الأزمنة ترافق الحدث في تداخلها، وفي معظمها كانت الشخصية(ضمير المتكلم). وبُنِيَ الحدث (الثيمة) بناء فنياً. وعلى سبيل المثال، يتمتع القاص بحرية في تحديد المكان، دون توضيحه توضيحاً كاملاً، وعدم الإكثار من التفاصيل، أي ترك فسحة تخيلية للقارئ كي يتصور المكان ويرسم مخططه كما يحلو له، وبما يتناسب مع الواقع الاجتماعي للشخوص، التي تسكن وتتفاعل وتتحرك فيه وتتنفس من هوائه، إن كانت أماكن ضيقة تقيد الحركة أو أماكن واسعة، حيث تتحرك الشخصيات بحرية أكثر.

 

قصص (الاغتيال) كما جاء على غلاف المجموعة، مستوحاة من الواقع، تتناول جوانب من حياة الناس، وخاصة المقهورين منهم. وتتحدث عن غزو المال وقدرته على تغيير النظرة إلى الإنسان والحياة.

العدد 1107 - 22/5/2024