الأمن الغذائي بين العودة والانهيار التام

أن تصل إلى مرحلة الإنتاج شبه التام لسلّتك الغذائية وتصدير الفائض وتصنيع جزء كبير منه، فأنت تحقّق إنجازاً كبيراً نسبة إلى الإمكانات المحلية والقوى الخارجية المعرقلة لطموح كهذا والساعية للتبعية والتدمير الممنهج.

 كان الأمن الغذائي الذي حققته سورية قبل الأزمة بسنوات مكمن فخر واعتزاز لأي سوري حقيقي يعترف ويعتز بما وصلت إليه بلاده من اكتفاء ذاتي يحقق مستوى غذائياً منوعاً لأبنائها وفائضاً بالكثير من المنتجات الغذائية والحيوانية للتصنيع وللتصدير، وكان الأمر اللافت هو محصول القمح والمخزون الاستراتيجي الذي أجبرنا على البحث عن آليات تخزين قبل سياسات التحطيم وما تبعها من أزمة كان اللعب بالقطاع الزراعي أحد أسبابها، فقد كان وسطي ما تتسلمه الدولة قبل 2008 بحدود 3 ملايين طن من القمح سنوياً، وكانت بالأرقام ما تسلمه مكتب الحبوب 2.588مليون طن كل من أعوام 2008 – 2010 ثم تراجع عام 2011 إلى  2.55  مليون طن،  ثم وإلى 1.69طن، وعام 2012 كانت الكمية المستلمة مليون طن فقط، ثم 938 ألف طن في عام 2013 وهذا التراجع الأخير كان نتيجة السرقة والتهريب إلى تركيا وهجر الأراضي، وبالتالي لا  بد من العودة للاهتمام بالزراعة، وشراء الحكومة لهذا المحصول لأهميته الآنية والاستراتيجية.  لا ننسى القطن والشوندر السكري والتبغ والحمضيات والزيتون وغيرها من الخضار والفواكه، هذه الفورة الإنتاجية، قبل 2008 انعكست إيجاباً على الاستقرار البشري في الأرياف وتحسين المستوى المعيشي والصحي والتنموي، ولم تكن هذه الفورة وليدة المصادفة وإنما نتيجة طبيعية لجهود مبرمجة لتأمين البنى التحتية اللازمة، وخاصة السدود والطرق والآليات والأسمدة والبذار والكوادر البشرية والتوعية التثقيفية والإرشادية، وكل ذلك وفق أسعار حوامل طاقة منخفضة لتعطي ربحية وأسعاراً ذات عائدية للفلاح وللمواطن .

  ومن هنا كان موقفنا قبل الأزمة من رفع أسعار الوقود مستنداً إلى خلفية معرفة نتائجه على مختلف الصعد، ومنها استقرار الأمن الغذائي والاستقرار البشري، وهو ما كان من خلال الهجرات التي حصلت من الأرياف بعد رفع سعر المازوت إلى 25 ليرة قبل الأزمة مع ما رافقه من تحرير لسعر الأسمدة والعلف، ومما انعكس ارتفاعاً في تكلفة الإنتاج وهجرة الفلاحين لأراضيهم، وترافق كذلك مع محاولة انسحاب الدولة من شراء بعض المحاصيل ومنها القمح، وتخفيض المساحات المزروعة ببعض السلع والمحاصيل الاستراتيجية كالشوندر والقطن، وذلك كله انعكس على الإنتاجية والمردود، ما أجبرنا على استيراد القمح وغيره، وأدى إلى ضعف التصدير لانخفاض الكفاءة وضعف السياسة التسويقية لمنتجات أخرى كالحمضيات والزيتون، وجاءت الأزمة التي كان من أسبابها المدخل الاجتماعي الناجم عن هذه السياسات. وإذا كان سعر المازوت خفض إلى 15 ل.س اعترافاً بما نتج من سلبيات عنه، وتلبية لمطالب مختلف الشرائح، فإن ما حصل خلال الأزمة كان الرفع المتتابع لأسعارسعارأسع حوامل الطاقة وغيرها من المستلزمات والأدوات والأسمدة، وخطورة النقل وضعف التسويق، وكان القرار الأقوى تحديد الحكومة سعر المازوت بـ125 ل.س وفق مبررات الحصار وسرقة النفط من قبل الإرهابيين الداعشيين، وانخفاض سعر الليرة السورية، وهو ما أوصل من بقي من المزارعين إلى التفكير بشكل جدي بهجرة الأرض وأصبح البقاء عاطلاً عن العمل خيراً مما آل إليه الوضع، فالتكاليف المترتبة على هذا القرار أصبحت خيالية، من أسعار البذار إلى الأسمدة إلى أسعار الفلاحة والنقل لأي محصول أو الأدوات اللازمة، وأسعار التعبئة من أكياس وصناديق، فالفلاحة للسكة التي كانت تكلف 500 ل.س أصبحت تكلف 2000 ل.س، وأجور النقل تضاعفت (4 -5) أضعاف، وطنّ السماد تضاعف سعره (3 -4) أضعاف، فطن السماد المركب الذي كان ثمنه 25 ألف ليرة، أصبح 72 ألفاً باستثناء أجور النقل والتوصيل، والعامل الذي كان يتقاضى 500 ل.س يومياً أصبح لا يرضى بـ 4 أضعافها.

كل هذا انعكس على حياة الفلاح، والمواطن الذي أصبح في حالة يعجز فيها عن توفير القدرة الشرائية للسلع، ويحرم أسرته من الكثير منها نظراً لارتفاع أثمانها، وبالتالي أصبح الأمن الغذائي الذي كنا نفتخر به في حالة سيئة، وأصبح الفلاح بحاجة إلى من يدعمه لتجاوز الصعوبات بشكل آني، وأصبح ضرورياً التفكير الجدي بإعادة النظر بسياسات وبرامج فرضت باسم الأزمة، وما أحدثته من نتائج تضخمية مزلزلة على المواطن والفلاح، وخاصة في ظل كون جزء كبير من المناطق غير آمن، وملايين المواطنين مهجرين خارج البلاد أو داخلها، وبالتالي لم يظهر تأثير النقص الحاصل بهجرة الأراضي وترك الزراعة بشكل كامل.

وهنا يجب التفكير بالتعويض المشجع والمجزي للفلاحين لدفعهم إلى العودة إلى أراضيهم ومتابعة نشاطهم في زراعة الأراضي كما اعتادوا من أجل عودة الأمن الغذائي، ولكن الموضوع شائك، فالدعم المادي أو الشراء من قبل الدولة قد يجري لبعض المحاصيل كما كان سابقاً، ولكن ظروف المواطنين المعيشية صعبة، وعقلية الحكومة الحالية مسايرة للمشاريع السابقة المحررة للسوق والتخلي عن أغلب النشاطات، لكن الأمن الغذائي يجب أن يكون أهم الأولويات القادمة، ولن يتحقق إلا بوصفة مركبة متتالية.

 لابد هنا من توجيه الشكر والتنويه بما قام به مدير المؤسسة العامة للتبغ مؤخراً برفع أسعار التبوغ لتشجيع الفلاحين، لأن هذه السلعة لا تنعكس بشكل كبير على المستهلك، ولكنها ذات مردودية كبيرة لصالح موازنة الدولة وتوزيع الثروة، وهي لفتة جيدة ومحقة ومشجعة، ولكنها قد لاتنفع لسلع أخرى، وإنما يجب البحث عن آلية دعم لا تنعكس على المواطن الذي قلّص كمية استهلاكه ونوعيته بسبب ضيق الحال، قد  تبدأ بالدعم المالي في الفترات القصيرة وصولاً إلى عودة الحكومة لتأمين المستلزمات والبذار بأسعار تشجيعية، وإعادة النظر دورياً بأسعار الوقود التي هي لب المشكلة، وستستمر بها المشكلة الزراعية إن لم تتغير أسعارها بشكل منحدر مستمر بتغير الظروف المبررة لرفع ثمن المازوت، وما رافقه من عواصف أسعار التكلفة والنقل، متذكرين أن الوضع المعيشي قد خفض الطلب على السلع، وكذلك النزوح الداخلي والخارجي، وبالتالي في الأيام القادمة سيكون الطلب  أضعافاً مضاعفة، وسنكون في وضع مأساوي إن سايرنا بنهجنا الاقتصادي والزراعي بعض الانتهازيين وتجار الأزمات الذين مرروا مشروعهم ما بعد الليبرالي وفق لعب وتهويلات وشراء نفوس وذمم ومساندة جزء من الإرهابيين.

التحصين الداخلي كان أس البناء، وقوة سورية تكمن في العودة إلى ذلك النهج والمسار بمساعدة كل الشرفاء، وتسخير كل الإمكانات العامة والخاصة بما يراعي الظروف للعودة القوية التي سيكون مدخلها تحقيق الأمن الغذائي وتأمين ظروف إيجابية وتسهيلات لذوي الجباه والسواعد السمراء

العدد 1105 - 01/5/2024