الحكومة… تسريبات اقتصادية فاشلة

تخيفنا التسريبات الحكومية الاقتصادية، وتهدد استقرارنا الهش، وتحولنا إلى أدوات، أو كائنات عليها تلقّي الصدمات، واستقبال القرارات – بابتسامة عريضة- وامتصاص التوجهات الحكومية، والتأكيد على صحتها، ودقّتها، ومدى صوابيتها.

وللأسف، هناك من يتعامل مع التسريبات الحكومية، وكأنها حقيقة يمكن أن تحدث، أو قضية يمكن أن تتجسد على أرض الواقع. الفرق الجوهري بين التسريبات الحكومية وما يمكن أن يحدث، كبير جداً، وتفصلهما فجوة عميقة، ما يفقد من قيمة التلويح بالعصا الحكومية، ويبدد مضمونها المهم. ماذا حل بكل التسريبات التي حاول حاكم مصرف سورية المركزي تمريرها بشأن رغبته العارمة بالضرب بيد من حديد على كل المتلاعبين والمضاربين بسعر صرف الليرة؟ ببساطة، لقد ذهبت أدراج الرياح، وذرّت الرماد بعيوننا، ولم تتمكن من إيقاف الجموح الواضح للقطع الأجنبي مقابل التهاوي المنتظم والكبير لقيمة الليرة. كم من المضاربين أوقفوا؟ ما الإجراء المهم الذي اتخذه المركزي  وساهم بلملمة خيوط لعبة سعر الصرف؟ ورغم عدم قناعتنا بكل ما قيل حول وجود مواقع على شبكة التواصل الاجتماعي تتحكم بسعر الصرف، فإن المركزي الذي تبنى هذه النظرية غير العلمية، لم يعلن عن الجدوى من إجراءاته في سبيل الحد من تغول المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي (الفيس بوك)؟ كما نتساءل عن تسريبات مفادها أنه بصدد إجراءات حازمة لضبط أسعار الصرف؟ تعامل المركزي مع سعر الصرف وفقاً لتسريبات غير منطقية، لا تغني و لا تسمن من جوع، وحاول أن يمارس بهذه التسريبات دوراً في ضبط إيقاع السوق، أو التلويح بتحرك ما، يمكن أن يحدث أثراً. فقفز سعر الصرف، واستمر في الصعود، ولم تنفع معه فيما بعد، التصريحات أو غيرها، مادامت الإجراءات غائبة.

بالمسطرة ذاتها يمكن القياس، فعندما جنحت الحكومة نحو موقف غير شعبي، واتخذت قراراً يقضي برفع سعر المازوت والبنزين والغاز والخبز، سرّب مسؤول حكومي كبير، أنه بإمكانه إعادة سعر المازوت إلى سبع ليرات، وفي هذه الحالة لن تتمكن الحكومة من تسديد رواتب موظفيها في الشهر التالي. أثار هذا الموقف الاستياء على الصعيد الشعبي، وترك انطباعات سلبية لدى شرائح واسعة، شعرت بأن هناك فوقية مقيتة تتضمنها هذه التسريبات التي أريد منها إسكات الأفواه التي عبّرت عن عدم رضاها على الإجراء المذكور. فأتت المقارنة لتصب النار فوق الزيت، وتكشف مؤشرات بالغة السلبية في الاقتصاد الذي يزعم معظم الوزراء أنه بدأ مرحلة التعافي المبكر، وثمة خطط لديهم  للسير في هذا الاتجاه. هل كان المقصود من التسريبة الإعلامية غير المباشرة، توجيه تحذير، أم بث رسالة طمأنة؟ ثمة فرق جوهري بين الموقفين، ومسافات شاسعة بين الهدفين المراد تحقيق أحدهما، لكن الأثر السلبي الذي حصده هذا التسريب لايمكن نسيانه، خاصة أنه أتى أقرب إلى التهديد المباشر، بأن الحكومة اختارت ما تراه مناسباً، وفرضته فرضاً، من فوق إلى تحت، دون أن تعمل على اقناع الناس بهذا الموقف.

هذان نموذجان، لتسريبات حكومية، لم يحققا الهدف المراد منهما، وكذا هو الأمر بالنسبة لقضايا اقتصادية أخرى، كالخبز، الذي مهدت الحكومة  لرفع أسعاره من باب لايمكن  الاقتناع به، وهو الهدر الكبير الحاصل في استهلاك هذه المادة، متجاهلة قضيتين أساسيتين، الأولى تتعلق بأن الزيادة في كمية استهلاك الخبز سببها تعويض النقص في الغذاء، نظراً لرخص أسعار الخبز مقارنة بالمواد الاستهلاكية الأساسية الأخرى التي شهدت أسعارها ارتفاعات جنونية. والثانية عجز الحكومة عن متابعة المتاجرين والمحتكرين والمُستغِّلين لهذه المادة، فمن يجرؤ على المتاجرة بالخبز من عامة الناس؟ ومن يستطيع نقل كميات كبيرة منه بين منطقة وأخرى؟ تلك أسئلة تختزل القضية، وتعبر عن الجنوح الرسمي نحو تجاهل الجوهر الحقيقي للقضية، والاكتفاء بمواقف بسيطة، ليبرالية، لا يمكن أن تحل القضية بالشكل المعقول.

تسريبات الحكومة الاقتصادية إعلامياً لم تحقق الجدوى منها، ولم تنفذ المطلوب، إلا أنها ساهمت في تحريك المياه الراكدة، وتوسيع مروحة الدوائر التي لا معنى لها، إذ إنها تضيع وتتلاشى بحكم الوقت.

العدد 1105 - 01/5/2024