سياسات التحفيز والريع وعدم الاستقرار

(في الطريقة التي تستحوذ فيها على الثروة وتستعملها، فإن الأرستقراطية المالية ما هي إلا البروليتاريا الرثة التي تخلق من جديد على قمة المجتمع البورجوازي)

كارل ماركس

 

 يقول آلان غرنيسبان الحاكم السابق للاحتياطي الفدرالي الأمريكي (إن هدف التمويل هو تحويل مدخرات المجتمع (…) بالإضافة إلى المدخرات المستدانة من الخارج (…) إلى الاستثمارات الأكثر إنتاجية من الناحيتين الفكرية والمادية). في هذا الإطار، أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، للسنة الثالثة على التوالي، سلة تحفيزية بقيمة مليار دولار في 2015 وذلك على الرغم من عدم وجود دليل أو مؤشر واضح على تأثير الإجراءات التحفيزية في 2013 و2014 على النمو الاقتصادي، على الرغم من إعلان المصرف المركزي أن سياسته التحفيزية هذه ساهمت في 60% من النمو المحقق في 2013 المقدر بنحو 2.5%، من دون أن يقدم أي تعليل لهذا الاستنتاج المفترض أن يكون مبنياً على منهجية واضحة وعلى مقدار معين من الشفافية.

ما يثير الشك حول فعالية هذه الإجراءات في التأثير على النمو الاقتصادي، أنه بالإضافة الى ضعف العلاقة بين هدف البنك المركزي والإقراض الفعلي من قبل المصارف، فإن الجزء الأكبر من هذه الاعتمادات يتجه إلى القروض السكنية التي تحرك الجمود العقاري القائم، المتمثل بفائض الشقق، من دون أن يكون لها تأثير على النمو الاقتصادي في المدى القريب، الذي يُقاس بالإنتاج أو الاستثمار الجديد، وليس عمليات شراء الشقق المنجزة أو القديمة. وثانياً، وهو السبب الأهم، أن العلاقة بين الإقراض للقطاع الخاص والناتج الوطني هي علاقة غير مستقرة في لبنان على عكس الاقتصادات الرأسمالية المتقدمة. في لبنان، وفي نظرة إلى نسبة الإقراض الخاص إلى الناتج في السنوات الخمسة الماضية، فإننا نرى ارتفاعاً ملحوظاَ في هذه النسبة، ما يعني عدم وجود رابط بين هذين المتغيرين. وبنظرة أكثر دقة، بينت دراسة قياسية عدم وجود علاقة سببية من الإقراض إلى النمو الاقتصادي في الفترة الممتدة بين 1992 و2011 في لبنان (دراسة علي عودة – الجامعة اللبنانية).

إذاً ما تاثير هذه السياسات؟

هذه السياسات التحفيزية، تساهم في ارتفاع نسبة الدين الخاص في الاقتصاد، وبالتالي تزيد الهشاشة المالية التي بدأت ترتفع في الآونة الأخيرة، مع ارتفاع الإقراض للاستهلاك وشراء العقارات في ظل اقتصاد ركودي لا ترتفع فيه المداخيل الناتجة من العمل والإنتاج، بحيث يتم تأمين الفجوة بين الحاجات والرغبات الاستهلاكية ومقدار الدخل عبر القروض. إن عدم التناظر هذا بين الاستهلاك المتزايد وتعميم مجتمع الملكية وبين مداخيل الأسر، قد يؤدي في حال استمراره مدة طويلة (أو نتيجة صدمة أمنية أو سياسية) إلى أزمة مالية. فالدفع باتجاه مجتمع الملكية، وثقافة الاستهلاك المعممة على جميع طبقات المجتمع، يؤدي إلى هذه الهشاشة المالية، بسبب عدم المساواة في الدخل وشح الموارد والحاجة إلى التمويل لشراء الأصول في النظام الرأسمالي.

بيّن الاقتصادي الكينزي هايمان مينسكي أن الحاجة إلى التمويل الرأسمالي هي أحد الأسباب الرئيسية لعدم استقرار الاقتصادات الرأسمالية. لقد كان هذا الفكر مطموساً على هامش الفكر الاقتصادي المسيطر حتى الأزمة الأخيرة في 2008 والتي سماها الاقتصادي (المستثمر في شركة Pimco سابقاً) بول ماكولي «لحظة منيسكي» Minsky Noment) ). لقد كانت وسيلة انفجار الأزمة في الولايات المتحدة أن السعي إلى الربح في الأسواق المالية حتّم على المؤسسات المالية ابتكار الأدوات الاقتراضية الوهمية التي أدت إلى انهيار النظام المالي بأسره (وصف المستثمر الشهير ريتشارد بوكستابر هذه العملية الابتكارية كتحقيق لفكرة ماركس حول الحاجة إلى الابتكار الدائم في النظام الرأسمالي من أجل تحقيق الربح).

في ظل غياب الابتكارات المالية في لبنان، فإن السياسة التحفيزية للمصرف المركزي قد تساهم في دفع ديناميكية التأزم إلى الأمام، التي هي أصلاً مسيرة أوتوماتيكياً من قبل التدفق النقدي الخارجي المحتوم من أجل تمويل العجز التجاري وعجز الخزينة بالعملة الأجنبية، حفاظاً على استقرار النقد. هذان العاملان (الأساسي والمكمّل) قد يلعبان الدور الذي لعبته الابتكارات المالية في تفجير أزمة مالية، وخصوصاً في ظل وصول الدين الخارجي إلى 170% من الناتج المحلي، حسب تقرير صندوق النقد الدولي في عام 2012.

إن ارتفاع نسبة الدين الخاص يؤدي أيضاً إلى المزيد من عدم المساواة في الدخل والثروة وارتفاع حصة الريع في الاقتصاد. ففي عام ،2000 بحسب إحصاءات مركز أبحاث WIDER، كان مؤشر جيني في لبنان يبلغ 0.76 (وهو مؤشر يقيس عدم المساواة، وهو يتراوح بين صفر، أي مساواة كاملة، وبين واحد، أي عدم مساواة كاملة)، وارتفع هذا المؤشر في عام 2013 بحسبCredit Suisse، إلى أي أن عدم مساواة توزع الثروة ازداد، ما يجعل لبنان من أكثر دول العالم في عدم المساواة، إذ إن 66% من السكان الراشدين يملكون ثروة تقدر بأقل من 10 آلاف دولار، في حين أن 5,3% فقط يملكون ثروة أكثر من 100 ألف دولار. ترافق هذا، بحسب حساباتي، مع ارتفاع في حصة الفوائد في الدخل الوطني من 5% إلى 10% بين عامي 1997 و2007 وارتفاع نسبة الثروة إلى الدخل الوطني من 3,3 في عام 2000 إلى 4.6 في عام 2007. ما يدفع هذا الارتفاع هو أن العائد على الرأسمال المالي أعلى من النمو الاقتصادي، وهذا ما يرفع من حصة الرأسمال على حساب الدخل المتأتي في العمل، كما بيّن توماس بيكيتي في كتابه (الرأسمال في القرن الواحد والعشرين).

إن المصرف المركزي اتخذ بعض التدابير الاحترازية لكبح جماح تطور الهشاشة المالية، إلا أن إصراره على التحفيز من أجل منفعة القطاع العقاري يجعله كأنه يعمل على النسخة اللبنانية لما قاله بول ماكولي (إن الاحتياطي الفدرالي لديه المقدرة على خلق فقاعة في أسعار المنازل (…) وذلك من أجل استمرار المتعة الأمريكية). وبالتالي فإن هذه السياسات وارتفاع الدين الخاص في ظل اقتصاد ركودي سيؤدي إلى زيادة الهشاشة المالية وارتفاع عدم المساواة في الدخل والثروة ودعم اقتصاد استهلاكي يعيش فوق طاقته بانتظار ساعة الحقيقة.

 

عن (الأخبار)

العدد 1105 - 01/5/2024