أغرابٌ في بيئاتهم

ساهم العالم الافتراضي ولا يزال بسهولة التواصل بين الناس رغم المسافات، وبسهولة الوصول إلى المعلومة المطلوبة بأسرع وقت ممكن، وتنوعت التطبيقات والبرامج المستخدمة لهذه الأغراض، مما شكَّل عاملاً محفِّزاً لدى الكثيرين للجلوس بشكل شبه دائم أمام شاشة الكمبيوتر أو الأجهزة الخلوية الذكية لتلبية احتياجاتهم المعرفية أو لزيادة تواصلهم مع أقرانهم، ليتحول إلى ما يُقارب الإدمان على تلك الأجهزة وبرامجها، حتى أننا بتنا نُعايش هذه الظاهرة في كل الأماكن حتى في الشوارع…

لهذا الإدمان وجهان، الأول إيجابي، ذلك أنَّه يزيد كمّ المعلومات لدى الشَّخص المتابع إضافةً إلى زيادة عدد الأشخاص الذين يتواصل معهم فيشعر بالمتعة وينمو عنده إحساسٌ وهميٌّ بأهميته ككائن اجتماعي لديه علاقاتٌ عدَّةٌ متنوِّعةٌ ومتشعِّبة تصل إلى أقاصي الأرض،
والثاني سلبي، لأنه لا يمتلك من طرق التواصل الحسِّي أيَّة وسيلة، ذلك أنه يعتمد على الكتابة والقراءة فقط بينما تنتفي منه آليات التواصل الحسِّية الأخرى كالرُّؤية والسَّمع والشُّعور النَّاجم عن التَّواصل المباشر،
ما يجعل هذا الشَّكل من التَّواصل ركيكاً غير متين، فالتَّعايش الاجتماعي كلٌّ متكاملٌ من النَّاحية الشُّعورية وهذا ما يؤكِّده المثل الشَّعبي القائل (العين مغرفة الكلام) أو كما عبَّر الشَّاعر بشَّار بن برد بقوله (الأذن تعشق قبل العين أحيانا
فإن غابت إحدى هذه الآليات غدا تواصلاً ناقصاً غير حقيقي، لأنها تعمل بتكاملٍ وتناغم، ما يُحوِّل المدمن مع مرور الزَّمن لكائنٍ افتراضيٍّ كغيره ممّن يتواصل معهم ناتج ابتعاده عن الواقع الحسِّي المحيط به.
وإذا ما اضطرَّ للعيش مع هذا المحيط الملموس يشعر بالغربة والضَّياع نتيجة افتقاده لتلك الأدوات الشَّديدة الأهميَّة، فلا اللُّغة بات يمتلكها ولا هو قادرٌ على الإصغاء، حتى أن مشاعره تُمسي واحدةً تجاه أي أمر، ما يزيد من شعوره بالتَّوتُّر إن تطلَّبت منه ظروف الحياة الابتعاد عن عالمه الافتراضي،
ومن ثمَّ الخيبة من هذا الواقع الحقيقي لأنه لم يعد قادراً على التَّأقلم معه، وما إن يعود إلى عالمه الافتراضي حتى نجده قد استعاد بعض توازنه متوهِّماً بأنه يحققه من خلاله، والأمثلة على ذلك كثيرة،
فإذا جرَّبنا أن نتحاور بشكلٍ مباشر مع أشخاصٍ اعتادوا الحياة الافتراضية وجدناهم غير قادرين على استخدام مفردات اللُّغة أو مفاتيح التَّعبير أو التواصل الحسِّي ما يؤكد لنا أن الجلوس الطويل الأمد أمام شاشة الكمبيوتر أو مع الأجهزة الذَّكية
يساهم وبشدَّة في ابتعاد الناس عن بعضهم البعض حسِّياً وازدياد الشُّعور بالغربة في الوقت الذي يعيشون في مكانٍ واحد وضمن وسطٍ اجتماعيٍ كبيرٍ.

العدد 1107 - 22/5/2024