بريق (ماكرون) يتقلص أمام الإضرابات الاجتماعية!

من الواضح أن الإشعاع الذي صاحب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل دخوله قصر الإليزيه وبعده، والذي تزامن مع النجاح الكاسح الذي حققه تياره السياسي في الانتخابات التشريعية، بدأ يخبو ويتضاءل تدريجياً مع اصطدامه بالواقع، بما فيه من تناقضات ومطالب تقف وراءها حركات سياسية ونقابية ومنظمات مدنية، بحيث شكلت كلها موجة واسعة النطاق من الإضرابات المرشحة لزلزلة فرنسا، مع استقطاب مزيد من القطاعات والفئات الاجتماعية الفرنسية.

ومن الواضح أيضاً أن القوى اليسارية تتزعم هذه الاحتجاجات والإضرابات، وتعمل على ممارسة ضغط كبير وشامل على الحكومة، لإجبارها على التراجع عن خطها (الإصلاحي).

أشد الانتقادات- الموجهة إلى الرئيس ماكرون- قسوةً، جاءت من سلفه الرئيس فرانسوا هولاند، عندما اتهمه بتجاهل الطبقات الفقيرة والوسطى، وبالانحياز إلى الأثرياء والشركات الكبرى، وذكّره بواقعة مهمة في التاريخ الفرنسي، وهي أن الشعب الفرنسي أعدم الملك لويس السادس عشر بالمقصلة عام 1793، كذلك تضمن هذا التوبيخ الشديد اللهجة اتهامات للرئيس ماكرون بتعميق عدم المساواة في المجتمع الفرنسي، وانتهاج إصلاحات على حساب مصالح الفئات والطبقات الفقيرة والمتوسطة.

لقد دخلت الحكومة الفرنسية في معركة مفتوحة ضد الاتحادات العمالية، بخصوص مشاريع قوانين حول المعاشات وإصلاح نظام التعليم، وخصخصة بعض القطاعات الحكومية مثل الشركة الوطنية الفرنسية للسكك الحديدية، التي دخل موظفوها في إضراب كبير قبل أسبوع وسط توقعات بأن تكون نتائجها وخيمة تهدد حكومة ماكرون بهزيمة سياسية تذكّر بمصير حكومة آلان جوبيه عام 1995، الذي أجبرته الإضرابات آنذاك، على سحب الإصلاحات والانصياع لإرادة المضربين.

منذ الأشهر الأولى لحكم ماكرون كانت التوقعات تشير إلى أن هذا العام، أي عام 2018، سيكون عاماً صعباً وعصيباً على حكومته، وأن الإضرابات والاضطرابات الاجتماعية الشعبية سوف تزداد، بسبب النهج الإصلاحي الذي يعتمده منذ أن جاء إلى قصر الإليزيه، وكان الصدام مع عمال سكك الحديد أحد أكبر التحديات الذي يشبهه بعض المعلقين السياسيين الفرنسيين بالمواجهة التي خاضتها رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارغريت تاتشر مع عمال المناجم البريطانيين في عام 1984، إلا أن النصر الذي حققته تاتشر آنذاك من المؤكد أن ماكرون لن يحققه الآن، نظراً لاختلاف الوقائع التاريخية والموضوعية.. ومع ذلك قد يقرر ماكرون خوض مغامرة في هذا المجال، من أجل فرض إصلاحاته بالقوة، معتمداً على دعم الأثرياء وأصحاب الشركات الكبرى الذين بالأساس هم الذين كانوا وراء تلميعه ونجاحه في انتخابات الرئاسة الفرنسية، فمن المعروف أن ماكرون ليس له رصيد سياسي كبير يؤهله لدخول قصر الإليزيه، إضافة إلى دعم رأسمالي أمريكي وبريطاني وغربي بشكل عام له.

جدير بالذكر أن اقتصاد فرنسا يعاني من أزمة عميقة، شأنه في ذلك، شأن الاقتصادات الغربية الأخرى، لذلك يريد ماكرون أن يخلّص بلاده من الأزمة الاقتصادية الحالية، من خلال إصلاح قانون العمل والضغط على أنظمة التوظيف، إلى جانب السعي لجلب استثمارات خارجية والدخول في شراكات مع دول أخرى مثل: الصين والهند، علاوة على التمسك بكيان الاتحاد الأوربي، مع العلم بأن الدول الأخرى في الاتحاد ليست أفضل حالاً، بل هي مهددة، شأنها شأن فرنسا، باندلاع (ثورات واحتجاجات شعبية اجتماعية)، وقد عبرت الانتخابات التي جرت في ألمانيا وإيطاليا، مع ما أفرزته من حضور لافت لليمين المتطرف، عن حالة تبرم شعبية من سياسات الطبقات الحاكمة، ففي يوم واحد أضربت شركات الطيران في باريس وبرلين منذ عشرة أيام، وأعربت عن استعدادها للتصعيد إذا لم يُستجَب لمطالبها بزيادة الأجور، وهي متمسكة بمكاسبها السابقة، المهددة حالياً بالانتقاص منها.

الأمر الهام هنا هو أن السياسات الاقتصادية في معظم الدول الأوربية أدت وستؤدي أكثر إلى المزيد من الاضطرابات رغم محاولات حكام هذه الدول إظهار الثقة بالنفس والظهور وكأن بلدانهم جنات على الأرض.

العدد 1107 - 22/5/2024