الغوطة عروس الشام

بعد تلك الليالي القاتمة التي كانت، ها هي الشمسُ تبزغُ من غوطة الشام الشرقية.

أشعتها الدافئة بدأت تصافح وجه دمشق، وتصفو زرقة السماء من غبار الحرب في مواسم الربيع الجديد.

يهلل وجه اليمام والحمام تغريداً وهديلاً، بين عبير الياسمين، استقبالاً للصباحات المشرقة، بعد ليالٍ طويلة كانت بلا نجوم ولا أقمار.

تلك الليالي المظلمة التي كانت ملعباً للخفافيش والعناكب السوداء التي لا تحبُّ النور.

سنواتٌ من الحرب كانت تفصلُ بين القلب والجسد، بين دمشق وغوطتها الشرقية.

مسافاتٌ كبيرة صنعتها الحرب كان من الصعب عبورها واجتيازها، لا في المكان ولا في الزمان.

تلك المسافات التي كالنظريات في علوم النسبية، نسمع بالغوطة ونحن قربها بشكل نظري تجريدي، إنما لا يمكن للتجارب أن تقاربها بشكل واقعي حقيقي، وفقدنا المعرفة فيما يجري وراء الأكمة، حيث تحجبُ الحرب كل شيء.

الغوطة الشرقية هي تلك الحقولُ القادمة من رياض الجنة إلى الأرض.

هي تلك العروس التي ما تزال في ثوب زفافها عروسةً للجمال منذ الأزل.

الغوطة الشرقية عادت باشتياق الندى والمطر لمعانقة البساتين والزهور والثمار التي تداعبها أشعة الشمس، فتغردُ الطيور احتفالاً بهذا العناق الأبدي.

وهي التي تأتيها هدية العرس الكبرى من بردى، ذلك النهر الذي يملأ ضفتيه بالماء يقدمها لها، لتجديد الحياة فيها أبد الدهر.

العصفورُ الذي لمْ تكتمل صباحاته على أشجار الغوطة، والذي يتعلق بها كتعلّق الرضيع بصدر أمه، أجبرتهُ الحربُ على مغادرة المكان، ليترك ذاكرتهُ بين ظلال الأغصان وعلى الشرفات التي تفوح من أخشابها رائحة الزان والأبنوس والجوز واللوز.

 تلك الشرفات التي تركنا خيالاتنا ملصقة على إطلالاتها، أخذنا أوجاعنا مجبرين وابتعدنا عنها، بانتظار الشمس التي ستشرق من جديد وتعيد ترميم الخلايا للنفوس التي احترقت، وتعود العصافير إلى أغصانها، لتنشد أغاريد السلام.

تلك الغيبة الكبرى للغوطة التي صنعتها الحربُ، غابت فيها الشمس التي اعتادت أن تشرق من سمائها، والتي كانتْ تنهمر كشلال دفء إلى شرايين دمشق، والتي لولاها لن يكون سوى البرد في تلك الشرايين.

حياتنا التي كانتْ في صباحات الغوطة، ثم تناثرت في كل مكان كالبيادر التي تذروها العاصفة الهوجاء، ومازالت أراضيها تنتظر من العصافير أن تلتقط البذور التي ضاعت وتعيدها إلى رحمها، لينبت الزرع فيها من جديد، كما كانت منذ أن جعل الله أرضها بعضاً من جنَّتهِ الكبرى.

الأشجار في حقول الغوطة، تنفضُ الحريق عن هياكلها، وتبدأ في تمشيط أغصانها لتتوضأ وتسأل الله أن يكون المجد للأبرياء الذي ثابروا على سقايتها بدمائهم حين انقطعت مياه النهر والمطر في زمن الحرب.

 وهي تسأل الله أن يكون المجد للأطفال الذين لم يستوعبوا حقيقة ما يحدث، إنَّما ماتوا معانقين ثمارها يرضعون منها كأثداء أمهاتهم.

المجد للشام أبد الدهر!

العدد 1104 - 24/4/2024