الكواكبي… داعية العلم وعدو الاستبداد

نهضوي ومصلح غني عن الإخبار عنه، أغنى بالإخبار به، ولد في حلب عام ،1849 وتوفي في مصر عام 1902. وبعض الموثقين نقلوا خبر الوفاة 1909. ومولده الحلبي أثراه في الدين والقيم والوطنية. اختار لنفسه (الصحافة) فأنشأ جريدة (الشهباء). ولأنها منبر وطني تنويري عملت على تربية الجيل تربية وطنية حرة أقفلها الاستبداد العثماني. ولم يكن الإقفال الوجه الوحيد للدولة العثمانية، فقد أتبعتها بالسجن. وفي السجن تجربة لا تعطيها الحياة الطبيعية، وبعد ذلك هُجر الكواكبي من بلاد الشام فاختار -كما اختار الشافعي بعد صراع مع الرشيد ت 193ه- مصر. ومصر حينذاك كانت قد دخلت عالماً آخر مختلفاً جذرياً مفتوحاً في إثر نابليون ومحمد علي… لكن الكواكبي قام بجولة على الجزيرة العربية على أنها المنشأ والفضاء، ثم توجه إلى الهند، وعاد إلى مصر منتظماً في البنية العلمية والأخرى السياسية.

 

 من أهم ما أُثر عنه: كتابا (أم القرى) و(طبائع الاستبداد)، والأول أغنى عنه الثاني. وفي المأثورين السابقين سياحة في الشأن العربي كجغرافيا سياسية، وصدام عنيف مع الاستبداد العثماني: يقول في (الطبائع):

(المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحاكمهم بهواه لا بشريعتهم، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس ليسدّها عن النطق بالحق. المستبد إنسان، والإنسان أكثر ما يألف الغنم والكلاب، فالمستبد يودّ أن تكون رعيته كالغنم دَرّاً وطاعة، وكالكلاب تذلُّلاً وتملقاً).

فالحق الذي أراده الكواكبي هو (حق تقرير المصير)، لا القراءة الثيولوجية للتاريخ التي بوساطتها استحوذت الدولة العثمانية على استعادة مصطلح الفتح (1516) عندما جاء السلطان سليم الأول تحت هذا المسمى، ليكون مسوغه الإيديولوجي للهيمنة المديدة المشفوعة باستنطاق (النصوص) ما يسوغ سلوك السلطة واستمرارها. ولكن اللافت هو القسوة على (الرعية) الشعب، وما القسوة بعدائية إنما هي -كما يبدو- من موقع (التقريع). والتقريع والتنبيه من أساليب النهضة، وإن بدت هنا قاسية فقد بدت عند (اليازجي) مستعذبة مستساغة

تنبَّهوا واستفيقوا أيها العربُ

فقد طمى الخطبُ حتى غاصتِ الركبُ

 

يتابع الكواكبي (ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن، يتصرف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ماداموا قاصرين. فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم).

يشير الكواكبي إلى نص قرآني (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدَّلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، إنه كان حوباً كبيراً) النساء/2.

والإشارة هذه غرضها ربط الاستبداد السياسي بالنصوص الدينية التي يدَّعي المستبد العثماني حق امتلاكها. فالولايات العربية – بعد أن أخرجها العثمانيون من مركزها التاريخي ليُلحقها بهوامشه – استحالت إلى مجموعة من الكتل البشرية لا روح فيها، ينوب عن (روحها) الفكري والحضاري والسياسي (العثمانيّ) المستحوذ – بالفتح – على الوصاية عليها.

ثم يربط الكواكبي بحسه التاريخي بين الاستبداد والجهل، يقول (العلم قبسة من نور الله، وقد خلق الله النور كشافاً مبصراً ولّاداً للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضاحاً للخير فضاحاً للشر. ومن طبيعة النور تبديد الظلام. لا يخفى على المستبد مهما كان غبياً أن لا استعباد ولا اعتساف إلا مادامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة الجهل وتيه وعماء. ولو كان المستبد وحشاً لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنه هو الإنسان يصيد عالمه جاهلَه).

إن العلم الذي ينبه عليه، ليس العلم المتداول في أروقة العصور الوسطى، أو العلوم الفقهية المتركزة حول ذاتها والمستنسخة من بعضها، إنما العلم هنا هو العلم التنويري الذي جعل من الأمم الأخرى حضارية متقدمة سباقة إلى اكتشاف فضاءات (الحرية)، ولا سيما الحرية السياسية. والاستبداد لم يكن مصطلحاً خاصاً  -وإن اكتسب هنا خصوصية- فالاستبداد هو فكر إقصائي أُحادي، أو منظومة تدعي الكمال والإطلاق، أو شرائع مشتقة من عقائد جامدة أنتجتها ظروف غير قابلة للتكرار. ومن هنا اكتسبت الدعوة إلى (العلم) وضعية ذات خصوصية وهي خصوصية، الاستبدال، استبدال بعلوم التخلف علوم التقدم.

ينتقل الكواكبي من التعميم إلى التخصيص فيقول: (المستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم التي بعضها يُقوّم اللسان، وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان. نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان سحر بيان يحل عقدة الجيوش، لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيراً من أمثال الكميت وحسان ومونتسيكيو وشيلّر… ولا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، لأنها لا ترفع غبارة ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيها عمرهم أخذ منهم الغرور ما أخذ، فصاروا لا يرون علماً غير علمهم… حتى إذا نبغ بعضهم لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره، فيضحك عليهم بشيء من التعظيم… ولا يخاف من العلوم الصناعية المحض لأن أهلها مسالمون صغار نفوس، صغار همم، يشتريهم المستبد بقليل من المال والإعزاز، ولا يخشى من الرياضيين لأنهم قصار نظر).

من الواضح أن هجوم الكواكبي على علوم اللغة والعلم الديني له ما يسوغه، فعلوم اللغة (ما ترك الأول فيها للآخر شيئاً)، وتعمل على تخوير النفوس وتثبيط الرؤوس. وقد فصل بين (بيان) سكوني يعيد إنتاج نفسه وبين (بيان) تاخم الوضعية السياسية ليُشارك في (فتح) عسكري أو آخر سياسي. والفتح غير (الفتح) هناك. ولم ينسَ الكواكبي أن مّثل من كبار الأدباء الذين واجهوا الاستبداد، فاستحضر الكميت بن زيد (126ه) رمزاً على مواجهة الاستبداد الأموي، وهو من أصل عربي عريق (عدناني  قحطاني) فقد اجتمعت لديه الأصالة التي يبحث عنها الكواكبي، والرأي الحر الفردي الذي واجه الاستبداد ب( الإبداع). وقد عرف عنه إلمامه بالأنساب العربية… وأما استحضاره لحسان شاعر النبي فلأنه أراد القول: إن الحركات الكبرى تحتاج إلى تأييد الإبداعات المتوازية… وعندما يعرض لمفكر من عصر الأنوار مونتسيكيو (1755م)، فإنه يتخذ من هذا المفكر شاهداً على أهمية ذلك العصر. ومونتسيكيو مؤسس فلسفة التاريخ.

 وقد أعطى العامل الجغرافي الدور الأبرز في حياة الإنسان، والتغيرات التاريخية برأيه مظاهر مختلفة لجوهر واحد هو (التطور الإنساني) تحت شرطين: علم الأجناس البشرية، والأجناس تغايرت انعكاساً للعامل الجغرافي. والشرط الثاني علم النفس الاجتماعي الجامع بين الخصائص العرقية وبين طبيعة الفيزيولوجيا المتفاوتة، وهذا ما يجعل مظاهر (الحكم) مختلفة بين طور وآخر.

 والدين عنده مرتبط بالجغرافيا، فالإسلام يناسب طبيعة الشرق، والمسيحية ناسبت – رغم منشئها الشرقي – الغرب، وأما شيلّر فريدريك فون (1759-1805) فقد عُرف عنه عداؤه للطغيان في شتى صوره. ويرى – من خلال مثاليته- أن الإنسان معيار الأشياء جميعاً. واللافت ازدراؤه لعلوم لا تشارك في تشكيل الوعي السياسي  أو تخلق حساً نقدياً لدى الفرد. وإذ يزدري الكواكبي تلك العلوم ومتبنّيها فإنما يريد أن يحشد بوجه (العثماني) ما يمكن حشده من طاقات فكريةأو اجتماعية بغية تعرية ادعاءاته، وتعزيزاً للبدائل المحتملة المنبثقة من طبيعة الثقافة العربية التليد منها والطريف.

وكغيره من دُعاة الإصلاح والنهضة يؤكد الكواكبي طبيعة (المعرفة) حاملاً للتقدم السياسي والاجتماعي. ولكن الكواكبي يعزز مفهومَيْ (الإزاحة والإحلال): إزاحة (فكرية) العصور الوسطى التي غدت حاملاً للنمط العثماني، وإحلال ثقافة (التنوير) القادمة من خارج أسوار العثمانيين، وإن لم يُسمها لكنها أفصحت عن نفسها في المتن النهضوي عموماً. و(الكواكبي) تعييناً، يقول: (ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة، مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع والسياسة المدينية… ونحو ذلك من العلوم التي تكبرّ النفوس، توسّع العقول وتعّرف الإنسان ما حقوقه، وكيف الطلب، وكيف النوال وكيف الحفظ… والخلاصة أن المستبد يخشى من العلماء المرشدين لا العلماء المنافقين الذين حفر رؤوسهم محفوظات كثيرة كأنها مكتبة مقفلة).

إن (نصية) الكواكبي تُنبئ عن أستاذية نهضوية تقوم فلسفتها على تغذية (العقلانية) لا (النقلانية). ويذكِّرنا ب(فولتير ت 1778م ) الذي جاهر بعدائه للكنيسة الكاثوليكية وللمسيحية كمؤسسة. وقد أَسهمت آراؤه في تعميم النزعة الاختبارية الجديدة التي من شأنها زحزحة (المسيحية) التي خلقت -عبر مؤسساتها- الاستبداد اللاهوتي. ومن هنا نتفهم كيف أعلى من شأن جان لوك (1704)، فقال: (قدم لوك خدمة للعقل الإنساني تشبه ما قدمه نيوتن للطبيعة). إن ما يطرحه الكواكبي من تساؤلات هي نفسها التساؤلات التي تحدد تاريخ الفلسفة، بل (كيف لنا تحقيق فلسفتنا نحن). وفي فصله بين نوعين من المعرفة: معرفة الحفظ (النقل)، ومعرفة (النقد) يحدد مساراً للانطلاق، وهو الاقتداء بمن تقدم من الأمم… لا بمن تأخر. ولعل الناتج الأهم هو أن الاعتماد على (الداخل) (الشعار) المتوارث لا يمكن له وحده أن يكون رهان النهضة، فلا بد من تفاعل ذاك الداخل مع (الخارج) العالم الجديد. وفي اعتقادنا يتوقف شرط الفلسفة في أي عصر على فاعليتين مترابطتين: المعتقد الديني والأخلاقي من جهة، والبحث عن المعرفة الوضعية من الجهة الأخرى:

ويخلص الكواكبي إلى رأي مؤداه: (إن بين الاستبداد والعلم حرباً دائمة وطراداً مستمراً، يسعى العلماء في تنوير العقول ويجتهد المستبد في إطفاء نورها. والطرفان يتجاذبان العوام. ومن العوام؟ هم الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا. كما أنهم إذاً هم الذين متى علموا قالوا، ومتى قالوا فعلوا… إن العلم لا يناسب صغار المستبدين كخدمة الأديان والآباء الجهلاء والأزواج الحمقاء. والحاصل أنه ما انتشر نور العلم في أمة قط إلا وتكسرت فيها قيود الأسر.

مَنْ العوام؟ أو ما العامة؟ سؤال انتزعه قائد ميداني في عهد المأمون (197-218ه) عندما فرض المأمون نظام (الممتحنة) (209-218ه) واستمر حتى خلافة الواثق (227ه)، وفيها من لم ينجح في قضية خلق القرآن لا يولّى، وعندما أبدى المأمون رغبته في معرفة رأي العامة أفضى ذاك القائد بقوله: (وما العامة؟ والله إني لأقود إليك عشرة آلاف منهم بجندي). هذه المعادلة تساق شاهداً على صوابية الكواكبي، لأن العامة كانت على جهل بما يجري في النزاع بين المأمون والفقهاء. فالعامة صارت في العهد الوطني بُعيد (استقلالات) المستعمرات مجالاً لاحتماء السلطات الجديدة. لكن المصطلح اختلف فقد أزيح (العامة) وحل محله (الجماهير) أو (الجماهيرية الشعبية). ومعظم الدول التي خضعت لحكم الأرياف (القوى الجديدة) طرح منها مبدأ (التعليم الديمقراطي) كحق وواجب، وذلك رداً على طريقة الحكام السابقين من برجوازية المدن والتي لا تنتمي في معظمها إلى البيئات العربية، والتي لم تكن تؤمن بالتعليم العام. فالتعليم العام أيضاً يُفضي بالضرورة إلى التنظيم السياسي الرافع ل (العامة) و(للجماهير).

ونذكِّر بخطورة العامة على الحكم المركزي، فقد روى الزبير بن البكار (257ه) في مؤلفه (الأخبار الموفقيات) أن واحداً من رجالات عبدالملك بن مروان أشار عليه بنشر التعليم (الديني) طبعاً في بوادي الشام. فأجابه عبد الملك: (أتريدنا أن نعلِّم أهل الشام ما لا نريد أن يعلموه).

ولا يفوت الكواكبي أن يذكِّر باللغة فيقول: (يُستدل على عراقة الأمة في الاستعباد والحريةباستنطاق لغتها، هل هي قليلة ألفاظ التعظيم كالعربية، أم هي غنية في عبارات الخضوع كالفارسية، وكتلك التي ليس فيها أنا وأنت، بل سيدي وعبدكم).

ما من شك في أن التراكم الزمني للعربية (خمسة عشر قرناً) كان كفيلاً في إغنائها بمفردات السلطة أكثر من مفردات (الاعتراض). ولم تشهد لغة حية هذا الامتداد. فمن سلطة القبيلة إلى سلطة (الراشدية)، إلى الدولة (الأموية)، إلى الإمبراطورية (العباسية)، إلى المماليك والعثمانيين، إلى المد الشعبي والوطني في العصر الحديث. لكن الاستبداد بالعربية جاء من مصدرين: الأول العهود السياسية الثقافية، والثاني انبثاق مؤسسة (الفقه) كرديف شرعي للسلطة وكبديل عن النصوص الأولى. وإلى اليوم لا تزال السلفية الدينية (الإخوان) ومن في سياقهم يعملون على استمرار هذه المؤسسة. وعلى الجانب الآخر فريق من اللغويين يقف نقيضاً للكواكبي (عمر فروخ) في كتابه عبقرية اللغة العربية، إذ يرى أنها فوق اللغات والأمم والتاريخ… يقول د. مهدي المخزومي: (بعض القدماء كانوا يرون العربية من عند الله، فهي من خلقه، وكل ما لها هو من فعله ومشيئته). وكذلك زكي الأرسوزي الذي غالى في عروبياته ولغوياته. رحم الله الكواكبي… فالأمة بانتظار كوكبة أخرى من الكواكبيين ليبددوا الظلامية بكل أشكالها.

العدد 1107 - 22/5/2024