الأزمة والأمن الغذائي والحياتي

مازال في ذاكرة السوريين ما أذاعته محطةBBC  البريطانية في شتاء عام 1986 من أن سورية لايوجد عندها من القمح مايكفي مدة ثمان وأربعين ساعة، فأخذت المؤسسة العامة للحبوب والمطاحن تخلط القمح بالشعير وتبعث بها إلى المطاحن، ومن ثم إلى الأفران، حتى حل موسم الحصاد وتوفرت مادة القمح، وبعد ذلك رفعت الدولة أسعار القمح مما شجع الفلاحين السوريين على زيادة المساحات المخصصة لزراعته، إلى أن وصلنا في تسعينيات القرن الماضي إلى إنتاج أكثر من 4 ملايين طن من القمح، ووصل في سنوات منها إلى 6 ملايين طن، ومن كل الحبوب وصل إنتاجنا إلى 10 ملايين طن.. في ذاك الحين أعلنت القيادة السياسية في سورية أننا حققنا الأمن الغذائي لسورية، فماذا يعني الأمن الغذائي؟ وهل بالخبز وحده يحيا الإنسان؟

الأمن الغذائي بأبسط حالاته يعني تأمين 2400 سعرة حرارية يومياً للفرد الواحد، يحصل عليها من الحبوب ومشتقاتها والحليب ومشتقاته والخضار والفواكه والبيض والزيت، أي سلة غذائية متكاملة. إضافة إلى الأمن الغذائي هناك الأمن الحياتي من خلال توفير الماء والكهرباء والمازوت والغاز والبنزين والاتصالات والصحة والمنظفات والنقل والملبس والسكن والتعليم والزواج ووو…… فهل كل هذا ممكن في ظل الأزمة التي عصفت بكل شيء في سورية، وكان أكبر تأثير لها في قطاعات الزراعة والصناعة والنفط والتصدير والاستيراد؟ إن توفير كل ماسبق ذكره من حاجات إنسانية لتوفير أمن غذائي وحياتي يحتاج إلى تكامل الإنتاج الزراعي والصناعي والنفطي من جهة، ومن الجهة الأخرى يحتاج إلى قدرة الإنسان السوري المالية والاقتصادية لشراء كل ما سبق من احتياجات، فهل هو قادر على ذلك في ظل هذه الأزمة ولنناقش ذلك من خلال الواقع؟

القدرة الشرائية للمواطن السوري

مع انخفاض قيمة الليرة السورية إلى 20% مماكانت عليه قبل الأزمة، هذا يعني أن الأسعار لكل المواد ارتفعت مابين خمسة أضعاف وعشرة أضعاف، زائداً القيمة المضافة التي يحققها أثرياء الأزمات والمستوردون، ويتحمل تبعاتها ويكتوي بنارها المواطن الفقير، وقد أصبح ما يقارب تسعين في المئة من السوريين فقراء وفقراء جداً، والنتيجة أن المواطن السوري غير قادر على شراء أكثر من خُمس مايلزمه لاستمرارية الحياة، لأن دخله لايشكل أكثر من خُمس حاجته.

الزراعة

هي الركن الأساسي لتوفير الأمن الغذائي، وفي سورية زراعات استراتيجية تُسوّق فقط عن طريق الدولة (وهي القمح والقطن والشوندر السكري) وزراعات غير استراتيجية تسوق عن طريق أسواق الهال وعبر التجار والوسطاء (وهي الخضار والفواكه والحمضيات والحبوب الأخرى)، وجميع هذه المزروعات تدخل في عملية الأمن الغذائي بشقيه النباتي والحيواني، فهل الفلاح السوري قادر على إنتاج ماتحتاجه الدولة دون أن تعتمد على الاستيراد من الخارج وبما لايؤثر على سيادتها واستقلال قرارها. بقي إنتاجنا منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي وحتى عام 2006 يحافظ على إنتاج 4 ملايين طن من القمح ومليون طن من القطن وأكثر من مليون ونصف المليون طن من الشوندر وأكثر من مليون طن من الزيتون ونحو 200 ألف طن من زيت الزيتون وأكثر من 2 مليون طن من الحمضيات وأكثر من 200 ألف طن من لحم الفروج ومايتراوح بين 3 إلى 4 مليارات بيضة، فماذا حصل بعد ذلك؟!

بدأ تدني الإنتاج في المحاصيل الزراعية كافة وخاصة الحبوب والقطن والشوندر في الخطتين الخمسيتين التاسعة والعاشرة وتبني الفريق الاقتصادي حين ذاك عملية تحرير الاقتصاد وتحرير أسعار الأسمدة، ولاحقاً تحرير أسعار الطاقة واعتماد اقتصاد السوق وتغيير وجهة الاقتصاد من اقتصاد زراعي صناعي إلى اقتصاد ريعي يعتمد التجارة والسياحة والعقارات وتجارة المال، فقد ارتفعت أسعار الأسمدة اليوم إلى خمسة أضعاف ماكانت عليه، وارتفعت مستلزمات العملية الزراعية بالنسبة نفسها، وكانت الطبيعة في بعض السنوات حليفة لاقتصاد السوق، إذ أصبح الفلاح اليوم يجري عملية الفلاحة للأرض مرة واحدة ويرش الأسمدة مرة واحدة ويعتمد على الأمطار إن هطلت، وهكذا حتى وصلنا في عام 2014 إلى إنتاج أقل من 800 ألف طن من القمح، قسم كبير منه لم يسلم للدولة، وأقل من خمسين ألف طن من القطن ومثله من الشوندر، وقد كان معمل سكر سلحب هو الوحيد الذي يعمل بين ستة معامل، وهو مهدد بالإغلاق هذا العام لقلة المساحات المزروعة شوندراً، وسيتدنى الإنتاج أكثر إذا لم تسارع الدولة إلى وضع تسعيرة مناسبة لمستلزمات العملية الزراعية من أسمدة وطاقة وغيرها، وإن لم ترفع الأسعار بنسبة لاتقل عن نصف دولار للقمح ودولار كامل للقطن و15000 ل.س لطن الشوندر، ولن يفيد الدولة شيء فيما تخصصه لدعم الزراعة في نهاية المواسم، ذلك أن الجداول التي ترفع لاتحاد الفلاحين ومديريات الزراعة جداول تجانب الحقيقة وتضع أحياناً ضعفي المساحة المزروعة ضمن عمليات غش وتزوير للجداول. أمام هذه الحقائق الماثلة للعيان نطلب من الدولة تخفيض أسعار الأسمدة والمازوت الزراعي وزيادة أسعار المحاصيل الزراعية لحمايتها من التهريب وحرمان الدولة من استلام القمح والقطن المنتج، وهنا لابد من القول إن الفلاح السوري أحق من المستوردين والدول المصدرة للقمح والطحين لنا، بفارق الأموال التي ستدفعها الدولة بالعملة الصعبة ثمن قمح وطحين، فلتعط الدولة هذه الأموال للفلاح ليسلم كامل محصوله ويساهم في إعادة البناء من خلال زيادة الإنتاج.

الصناعة

إن أكثر مايهم غالبية المواطنين السوريين في هذه الأزمة من الصناعات هو استخداماته اليومية من المنظفات والزيت والسمنة والأدوات المنزلية وغيرها من الصناعات التحويلية التي تساهم في حياة المواطن اليومية. منذ بداية هذا القرن ابتليت سورية بفريق اقتصادي موجه من صندوق النقد الدولي وبعض المؤسسات المالية العالمية الأخرى. وتبنى اقتصاد التحرير والتخسير والبيع لمؤسسات القطاع العام الصناعي مماجعل القطاع العام الصناعي يُخرج من الخدمة العديد من المؤسسات الصناعية (معمل الورق في دير الزور – معمل الزجاج في دمر – ومعامل بردى للأدوات المنزلية والكهربائية وغيرها العشرات). إضافة إلى إغلاق العديد من المنشآت نتيجة المقاطعة الاقتصادية الجائرة على سورية من أكثر الدول التي كنا نستورد منها مايلزم لصناعاتنا، فكيف اليوم والحرب الظالمة التي تقودها تلك البلدان نفسها على سورية وتدمّر منشآتنا الاقتصادية من صناعية وزراعية وخدمية والتي بلغت في القطاع الصناعي 630 مليار ل.س، منها 300 مليار للقطاع الخاص، وتضرر أكثر من 1379 منشأة صناعية، إضافة إلى انتقال العديد من المنشآت إلى خارج سورية ، وبدلاً مماكانت توفره معاملنا وصناعتنا للمواطن السوري لم يعد بمقدوره أن يوفر خمس ماكان يستطيع شراءه بسبب الارتفاع الفلكي للسعار وأصبح المواطن عاجزاً عن شراء ليتر زيت عباد الشمس أو علبة سمنة، مما قلل وإلى حد كبير من حجم السلة الغذائية، ومن قيمتها الغذائية، كما أصبح تناول الخضراوات والفواكه والأكل المطبوخ في أقل مستوى له. بما معناه أن أمننا الغذائي قد (قُرئت عليه الفاتحة) من خلال الاستهلاك الضعيف جداً للفرد.. باستثناء من جمع الأموال عبر كل قنوات الفساد وسرقة المال العام والخاص بشكل مشروع أو غير مشروع، ومن سرقة جيوب المواطن عبر تعاملهم مع الفساد في مؤسسات الدولة ودوائرها. وأيضاً باستثناء من استغل المرحلة الصعبة التي تعيشها سورية، فأصبح يضع الأسعار كيفما يشاء ويحتكر المواد ويبيعها متى يشاء وبالسعر الذي يريد. هؤلاء هم الوجه الآخر للإجرام الذين كان من واجب الدولة محاربتهم بأقسى العقوبات التي يجب أن تصل حد الإعدام لهم، ولكل من يتلاعب بلقمة عيش المواطن ودفئه وأمنه. إضافة إلى المتعفشين الذين أحدثوا أسواقاً مصغرة محلية لتسويق سرقاتهم من المخازن والمحلات والأسواق والأحياء والبيوت في البلدات التي يحررها جيشنا الباسل من عصابات الإجرام والقتل والتكفير.

الاستيراد والتصدير والبترول

جاء في التقرير المقدم لاجتماع اللجنة المركزية لحزبنا بتاريخ 4 نيسان 2014: (إن الحصار والمقاطعة من قبل العديد من الدول العربية والاجنبية في المجالات الاقتصادية والسياسية كالاستيراد والتصدير وتجميد الأرصدة ومانجم عن ذلك من زيادة صعوبات تحويل ونقل البضائع من وإلى سورية وارتفاع تكاليفها وبالتالي شحّها وارتفاع أسعارها دفع ثمنها كاملاً في الواقع هو الشعب السوري من حياة أبنائه وقوتهم ودوائهم).

أضف إلى ذلك ضعف السيولة النقدية لدى الحكومة بسبب زيادة الاتفاق الأمني والعسكري واستنزاف الاحتياطي النقدي وتراجع عائدات السياحة وسرقة 85% من البترول، لهذه الأسباب مجتمعة تراجع مستوى معيشة المواطن السوري، وتدنى كثيراً عما كان عليه قبل الأزمة، بسبب البطالة وانخفاض قيمة الليرة السورية وبسبب التضخم وجشع التجار وأثرياء الأزمات وتسعير أبسط ماتحتاجه بالدولار، وقلة حيلة كل الحكومات التي تشكلت في هذه المرحلة، إذ انه لم تكن أي حكومة منها بمستوى الأزمة التي تعيشها سورية.

من كل ماسبق نجد أن المواطن أصبح يعيش بأقل مستوى مما كان يعيشه قبل الأزمة في كل مكونات حياته اليومية، وسلته الغذائية التي تبعثرت هنا وهناك من كل ماسبق ذكره. يأتي الدور الريادي والأساسي للدولة في معالجة آثار الأزمة وإعادة الإعمار واستمرار دورها الرعائي والتنموي، وأن يعود اقتصادنا اقتصاداً إنمائياً اجتماعياً يعتمد الزراعة والصناعة قاطرة له بقيادة قطاع عام قوي ومتين، ومشاركة قطاع خاص وطني يزدهر بازدهار الوطن ونمائه، لا قطاع خاص يزدهر بأزمات الوطن وأبنائه.

العدد 1105 - 01/5/2024