روسيا ماضية في سياساتها في سورية

 ماحدث في 24 الشهر الماضي يُعد الأكثر خطورة بين روسيا وتركيا منذ أزمة الصواريخ في ستينيات القرن الماضي. إذ قام الجيش التركي بذريعة انتهاك أراضيه بإسقاط طائرة روسية فوق جبل التركمان في ريف اللاذقية الشمالي، حيث المعارك على أشدها بين الجيش السوري والميليشيات الإسلامية المسلحة المدعومة من تركيا. أكدت روسيا أن طائرة سلاح الجو الروسي لم تخرق الأجواء التركية ولم تعتد على سيادتها. في الحقيقة إن السيادة التي يتبجح بها أردوغان هي ليست عدد الكيلومترات التي تدخلها طائرة تعتبر صديقة لتركيا وتجمعهما علاقات اقتصادية وثيقة، بقدر ماهي هيستريا أردوغانية لضياع طموحه الاستحواذي العدواني في سورية. أردوغان بهذه العملية أضر في مصالح تركيا مع روسيا، لكن هل يستطيع الغرب تعويض هذه الخسارة؟. بالتأكيد لا فالغرب كان ومازال يرفض ضمنياً تركيا في عائلته، والغرب اقتصادياً لايستطيع أن يتحمل تعويض أية خسارة لتركيا في مواجهتها لروسيا.

من حيث المبدأ، إسقاط الطائرة الروسية يعني أن تركيا تدعم الميليشيات الفاشية الإسلامية التي تحاربها روسيا. لكن السؤال المطروح: هل تستطيع تركيا حماية هذه الميليشيات؟ يبدو أن روسيا ملتزمة بحماية مصالحها العليا في الشرق الأوسط، إذ توفر لها سورية مجالاً استراتيجياً متقدماً لضمان هذه المصالح. لقد دخلت روسيا في الميدان السوري مباشرة بعد توصلها إلى قناعة أن الجيش السوري وصل إلى مرحلة لايستطيع فيها وقف خروج الجغرافيا السورية من سيطرته لمصلحة المجموعات المسلحة وأن كل الجهود التي تقدمها إيران وحزب الله لم تعد تكفي وأصبح هذا التدخل ضرورياً. تركيا في هذه القناعة الروسية لن تستطيع أن تستمر في دعم الميليشيات المسلحة. وبدت تداعيات الدخول العسكري المباشر لروسيا في سورية بعد أكثر من شهرين عليها واضحة للغاية. كما أن وجود القوات الروسية مع مرور الوقت سوف يؤدي بالضرورة إلى ترسيخ بقائها في سورية، بالتالي منع إمكانية أي عمل عسكري محتمل لتركيا بما فيه موضوع المنطقة الآمنة.

إن وجود نشاط عسكري روسي في سورية وحضور أنظمة دفاع جوي مأهولة بعناصر روسية صرح الجيش الروسي بأنه نشرها في منطقة حميميم وقبالة السواحل السورية، سوف يحد أو يمنع بالمطلق إمكانية أن تشن تركيا أية عمليات عسكرية على الجيش السوري أو فرض منطقة عازلة في الشمال السوري. إذ منذ اللحظة الأولى من اندلاع الأزمة السورية لم تتوقف تركيا عن سياساتها في تدمير الدولة السورية. تركيا لم تنتصر في أي حرب مع روسيا. لكن يبدو أن هذا الإرث التاريخي في مواجهة الجيش الروسي لم يردع الهيستيريا الأردوغانية من عمل عسكري يحمل في طياته أكثر من الاستفزاز لروسيا، نزع سورية من موقعها الاستراتيجي الحالي.

لقد وفر دخول القوات الجوية الروسية دوراً استخبارياً هاماً ساعد قوات الجيش السوري على استعادة مراكز حيوية هامة كان قد خسرها سابقاً في الشمال والبادية السورية. كما كان للحرب النفسية دور مهم خاصة في تقهقر الميليشيات المسلحة في ريف حلب الجنوبي، إذ إن وجود قوات روسية رفع من معنويات الحاضنة الشعبية للجيش السوري المرابط في نقاط القتال، في الوقت الذي بثّ القلق عند عناصر المجموعات المسلحة وانعكس هذا واضحاً على المحطات التلفزيونية المؤيدة لها. صحيح أن المجموعات المسلحة قد تلحق بعض الخسائر في صفوف الجيش الروسي، كما حصل مع قنص الطيار الروسي الذي سقطت طائرته فوق جبل التركمان، لكنها لن تستطيع أبداً هزيمته. وما بثه الإعلام المناهض للدولة السورية بترويج أن سورية ستكون أفغانستان ثانية ما هو إلا ذر الرماد في العيون، فالشرط الأفغاني الداخلي يختلف كلياً عن الشرط السورية والجغرافيا السياسية لإقليم المشرق أكثر تماسكاً وحساسية تجاه التوازنات الدولية مما كانت عليه منطقة وسط آسيا خلال الثمانينيات.

 قد تتكرر المواجهة الميدانية بين روسيا وتركيا، فعلى الرغم من قبول الطرفين (ولو أنه ظاهري بالنسبة إلى تركيا) أن (تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) هو عدو مشترك يجب محاربته، إلا أن تركيا تُقدم دعماً علنياً وصريحاً لما تسميه (الثوار) في مواجهة قوات الجيش السوري النظامي على محاربة داعش، في مقابل أن روسيا تُقدم دعماً للجيش السوري في مواجهة الميليشيات الإسلامية و(داعش) على حد سواء.

العدد 1105 - 01/5/2024