المناهج المدرسية.. هروب إلى الأمام؟!

 لا يمكن فصل العملية التربية عن الوضع العام في البلاد، فهي كبنية فوقية نتاج لبنية تحتية تتقاطع فيها تشكيلات اجتماعية اقتصادية عدة، ومجتمعات الشرق عموماً مليئة بالمتناقضات، يجاور الإقطاع فيها رأسمالية مشوهة لا علاقة لها بالإنتاج، وتختلط علاقات الإنتاج وأنماطها حتى تكاد تستعصي على التسمية.

وتبدو كل سلطة سياسية حريصة على أن تكون المناهج الدراسية في مختلف المراحل تحت إشراف مباشر منها، عبر نشر إيديولوجيتها في المقررات التي تتعلق بالتاريخ والجغرافيا والفكر السياسي والآداب، وترك هامش للدين الرسمي، أي تلك القوى الدينية الدائرة في فلك السلطات، لتعبر عن نفسها فيما يخص مناهج التربية الدينية لمختلف الأديان الموجودة في نطاق سيطرتها.

من الوجهة العلمية، يمكن القول إن المناهج التي درسناها في مدارسنا خلال العقود الأخيرة من القرن الفائت، كانت تعتمد على الحفظ والتلقين، ثم التفت المعنيون في وزارة التربية إلى الطرق الحديثة في إيصال المعلومة  إلى ذهن الطالب، عبر الاستنتاج والتساؤل لتنمية الفكر العلمي الجدلي عند الطالب، فجرى تغيير عاصف، ولأكثر من مرة في المناهج المدرسية خلال العقدين الأخيرين، وكان إجراءً ايجابياً من جهة البحث عن أفضل الطرق وأحدثها، في إيصال الفكرة إلى الطالب بعيداً عن الطريقة القديمة القائمة على الحفظ والتلقين وتنحية ملكة الجدل والتساؤل عنده. لكن المشكلة التي تعترض التعليم بمناهج حديثة كما يطرحها كثير من العاملين في حقل التربية، هو غياب البنية التحتية التي تتيح التفاعل مع هذه المناهج، بما يحقق الجدوى من تعليمها، بدءاً من الأبنية المدرسية التي لم تكن تكفي الأعداد المتزايدة من الطلاب قبل الحرب، ثم تفاقم الأمر بعد الحرب بسبب تدمير كثير من المدارس ونزوح السكان في مناطق الصراع إلى مدن وأحياء آمنة، مما خلق اكتظاظاً يفوق طاقة أي جهاز تعليمي على أداء رسالته بالحد الأدنى من الجدوى والدقة.

ثم تأتي مشكلة الوسائل التعليمية التي تحتاج إليها هذه المناهج، من مختبرات ووسائل إيضاح ومواد أولية للتجارب والتطبيق العملي، وهي تكاد تكون معدومة في مدارسنا أساساً، ثم زادت سوءاً خلال سني الحرب.

ومن المعروف أن بعض الآنسات (المدعومات) يفرزن مباشرة إلى العمل في المخابر لأنه عمل مع وقف التنفيذ، فتقضي وقتها في شرب القهوة والمتة أو عمل الصوف أو التسلية على النت، إن كانت تلتزم بالدوام أساساً.

وأخيراً وهو الأهم، إنه الوضع المعيشي للكادر التدريسي والإداري، كجزء من الحالة المعيشية للمواطن السوري بشكل عام، يكفي أن نشير إلى معلومة يعرفها الجميع ويكررها الجميع وهي أن وسطي رواتب العاملين في الدولة بحدود 25000 ليرة سورية شهرياً(ما يعادل 50 دولاراً) وأي أسرة سورية تحتاج في الحد الأدنى للإنفاق الضروري  إلى 200000 ليرة سورية شهرياً (400 دولار)، والجميع هنا يعيش الحالة ويعلم أن الراتب لا يكفي لأيام، ثم يبدأ الموظف، والمعلم طبعاً، البحث عن سبل أخرى لتأمين معيشة عائلته بشق الأنفس، فكيف يمكن لإنسان شغله الشاغل الركض ليل نهار خلف لقمة خبزه أن يقدم طاقة وجهداً كبيرين، لإيصال منهاج فرنسي أو ألماني أو أمريكي وضِعَ ليدرسه معلم متفرّغ لعمله، ولا يشكل هاجس العيش أي عبء عليه؟!

هذه العوامل، وعوامل أخرى كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، تجعل من هذه المناهج الحديثة والجميلة كجهاز كومبيوتر حديث تضعه في قرية غير مُخدّمة بالكهرباء، ولا بشبكة انترنت، ولا يوجد أحد فيها يتقن العمل على الجهاز.

إن التأسيس لمناهج حديثة ينبغي أن يأتي ضمن خطة تطوير استراتيجية تضعها الوزارة، وتستعين بمن تراه مناسباً من الجهات العامة والجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات، تبدأ بإعداد الكادر البشري ثم البنية التحتية ثم تعديل المناهج، وقبل كل شيء تحسين الوضع المعيشي للمعلم ولكل العاملين، بما يحقق الكفاية له ولأسرته، كما نص الدستور السوري صراحة.

العدد 1105 - 01/5/2024