هرمنا… حين نقدس الإنسان

هرمنا!… صرخة أطلقها ثائر تونسي انتظر طويلاً هذه الهبّة الشعبية التي بدأت في تونس وامتدت إلى بلدان عديدة، أُجهضت هنا واغتُصبت هناك من قوى لا علاقة لها بالربيع…

هرمنا… كلمة نسمعها يومياً عشرات المرات من رجال تجاوزوا الخمسين بقليل، في تعليق على حالة أو حديث…

وقد قرأ أغلبنا أن أجمل العمر في الدول المتقدمة التي تحترم الإنسان وتعتبره الثروة الأغلى والأهم هو ما نسميه عندنا بالشيخوخة أو الهرم، حين ينتهي الشخص من الركض خلف متطلبات الحياة والعائلة وتربية الأولاد وتأمين مصاريف السكن والدراسة والرفاهية لهم، أي حين يتقاعد عن العمل، ويتفرغ للسفر واكتشاف الجمال خارج بلده والتمتّع بالحياة وقضاء أوقات سعيدة برفقة زوجته أو صديقته أو مجموعة من رفاقه.

فيما يدخل المتقاعد عندنا ما يشبه (سن اليأس)، وهي تسمية ظالمة أساساً للمرأة التي انقطعت دورتها الشهرية، وتستعمل في الثقافة التراثية العربية عبارة (أرذل العمر).

يفقد المُسِن عندنا كل أمل في حياة جديدة متحررة من الالتزام بالأولاد والبيت، بعد أن كبروا وبدؤوا يرسمون مسارات حياتهم، ويلوك مفردات حياة مضت ولن تعود مردداً: (ألا ليت الشباب يعود يوماً…)، وهو بالتأكيد لن يعود.

إنه أشبه بموت مبكّر للمُسِن والمُسِنة طبعاً.

ادّعي أن الأمم المتحدة حين اعتمدت الأول من تشرين الأول يوماً عالمياً للمُسِنين نظرت في أوضاع مُسنّينا لا مُسِني الدول المتقدمة، بهدف رفع نسبة الوعي بالمشاكل التي تواجه كبار السن وإساءة معاملتهم في محيطهم ومجتمعاتهم، والاحتفال بما أنجزوه في حياتهم بمراحلها المختلفة.

قلنا إن المُسِن عندنا يعيش حالة موت مبكّر إن صحّ التعبير، إذ يمكث مع شريكة العمر إن كانت على قيد الحياة، أو وحيداً في منزل العائلة الذي فرغ من أهله وهو يلوك ذكرياته وانجازاته، ويبحث عمّن يقبل الاستماع إليه ولو بتأفف ظاهر.

وكلنا تعترضنا صحبة مسنين لا يفتؤون يعيدون السير ذاتها مراراً وتكراراً، ونجاملهم محبة ونستمع إليهم رغم أننا حفظناها عن ظهر قلب، لكننا مع تكرار الحديث نحاول التهرّب من الاستماع دون أن نسأل أنفسنا والمجتمع: ما الذي يجبره/ها على اجترار الحكايات نفسها وتطفيش الآخرين.

الدولة في بلاد الشرق ما زالت تحبو، هي مؤسسة مهملة بحد ذاتها لصالح أجهزة وتشكيلات سابقة للدولة من عشائر وأديان وطوائف وعسكر ولصوص، وهي لا تستطيع القيام بواجبها تجاه الأصحاء والشباب، فما بالك بالمُسِنين والمرضى والعجزة؟

إن الخطوة الأولى والأهم في العناية بالمتقدمين في العمر وتأمين ظروف حياة أفضل لهم هي تكريس ثقافة القانون الحامي لكل فرد في البلد مهما كان وضعه وجنسه وعمره، ونشر ثقافة المواطنة والانتماء إلى البلد، لا إلى الدين أو القومية أو الطائفة أو العشيرة أو حتى العائلة، حينئذٍ سيكون القانون عاصماً للمُسِن من التعرّض لهذه الحالة المزرية.

لكن من الآن وحتى نصل إلى تلك المرحلة لا بدّ من سنّ قوانين وتشريعات تأخذ بيد المتقدمين في السن إلى فسحات تجعلهم يُحسون بإنسانيتهم، من إنشاء مراكز ترفيه وسكن وممارسة الهوايات لهم (وليس دور عجزة ومسنين كما يسمونها)، وتأمين رعاية طبية مجانية للمُسِن سواء كان موظفاً متقاعداً أم لم يكن، وهذا الأمر يحتاج إلى جمعيات ومؤسسات تدعمها الدولة والمجتمع الأهلي إن بقي لدينا مجتمع أهلي لم تبتلعه العسكرة وجنون الحرب.

 

العدد 1107 - 22/5/2024