حداثة مكسورة الخاطر!

يختزل المفكر محمود أمين العالم الحداثة في اتجاهات ثلاثة: الأول يقوم على المعرفة العقلانية التاريخية الموضوعية ذات العمق الإنساني، تلخصه كلمة التنوير بالمعنى الكانطي. والثاني يقوم على فكرة القوة بالمعنى النتشوي. فيما الثالث يؤكد وضعية أدواتية تكنولوجية نفعية بالمعنى الوضعي. لكن رغم اختلافاتها يجمعها مبدأ التغيير والتطوير لواقع الإنسان. من هذه الاتجاهات هل يمكن الحديث عن حداثة ما، في العالم العربي؟!

رغم أن مصطلح الحداثة، أصبح جزءاً من الماضي، وقد شُغل العالم بالحديث فيما بعد الحداثة منذ عقود، تحديداً منذ منتصف القرن الماضي في أوربا، مع ذلك، وعلى ما يرى المفكرون والمثقفون العرب أنفسهم، أن العالم العربي لا يزال يعيش في القرون ما قبل الحداثة. ومأزق (الحداثة) العربية أنها لم تنتبه لمبدأ جوهر الحداثة عموماً، وهو ما أشار إليه المفكر العالم (مبدأ التغيير والتطوير لواقع الإنسان). وعلى سبيل المثال يؤكد محمود درويش أن الحداثة العربية قد تكون متحققة في الشعر، وربما في مراكز الشرطة، ولكنها غير متحققة في المجتمع، وهذا ما يؤكده أدونيس أيضاً: (لا يمكن أن نخلق حداثة عربية، من دون حداثة اجتماعية). وربما هذا ما دفع روائياً كخيري الذهبي ليقول وهو في غاية الإحباط: نحن أمة تكرر وتنسخ نفسها منذ القرن الرابع حتى اليوم، ذلك أنه كان الإنسان آخر اهتمامات التغيير، وفي استبعاده كان هذا اللبس والتشكيك في وجود حداثة في العالم العربي. فقد بقيت حداثة مكسورة الخاطر، ما إن نتحدث بشيء حتى يصيبه الترهل والتقليد، وأحياناً حالات نكوصية، نصير خلال لحظات وكأننا في مضارب بني عبس، تغرقنا كثبان الرمال من جهاتنا الست!

حتى مفهوم الحداثة نفسه بقي مفهوماً ملتبساً. ففي البداية كان ثمة حراك للثقافة العربية باتصالها بثقافات الفرس واليونان والهند، هذا التنوع كان مصدر ثراء لها، بدخولها في نسيج الثقافات الأخرى، وحدث العكس أيضاً، لكن تأخرنا نحن وتقدموا هم، بسبب وجودنا خارج حركة التاريخ في المستوى الاجتماعي، ولم نسمح للعقل العربي بالجدل والحوار. ومن ثم كان هذا الواقع الذي تسوده حالة التشتت والإرباك على الصعد كافة، وبعد نكبة 1948 بدأت التساؤلات تتوالى: (لماذا تقدموا هم، وبقينا نحن متخلفين؟) لدرجة التساؤل: هل هناك عيب في العقل العربي، على ما تساءل به المفكر حسن حنفي، فكل المشاريع الحداثية العربية، منذ عام 1967 لا تزال رؤى ثقافية، وخيارات فردية، وما زالت باتجاهات نخبوية.. بل إن مفكراً من مصر كسيد البحراوي ينفي تماماً أن تكون هناك نهضة عربية في العصر الحديث، ولا حتى تنوير، بل هناك مظاهر شكلية وفوقية، وهامشية، لا تمت إلى التطور الاجتماعي بصلة. وهذا برأيه متعلق بالطبقة الوسطى وعلاقتها بالمجتمع، فهي انتمت إلى الحداثة ظاهرياً، ولم تستطع عبر الفكر والممارسة الاقتصادية والسياسية أن تحقق نقلة اجتماعية إلى العصر الحديث!

منذ مئتي سنة لم ينجح مشروع عربي واحد في تحقيق الأماني العربية، سيما في تحقيق العدالة الاجتماعية. ورغم ما في الأمر مما يدعو إلى الإحباط، فثمة من يشير إلى أننا لسنا أمة راكدة، ومحاولات النهوض كانت عديدة، فمنذ أكثر من مئة سنة بقليل على سبيل المثال، أنجز العرب دولة محمد علي في القرن التاسع عشر، وأقاموا صرحاً ليبرالياً في النصف الأول من القرن العشرين، وفي عقدَيْ الخمسينيات والستينيات، أُنهي الاستعمار، وأنشئت الدولة المستقلة، و.. على ما يصر عليه حسن حنفي أننا لا نزال في بداية التاريخ، أي أن التاريخ الطويل لا يزال أمامنا..؟!

العدد 1105 - 01/5/2024