هذه إجراءات حكومية ساهمت في تعميق الفقر

 تنصّل الحكومة من مسؤولياتها الاقتصادية، يعكس مدى فشلها في إدارة الملفات الأكثر سخونة، ويرسم حدوداً فاصلة، وفجوة عميقة بينها وبين مواطنيها الذين من الأفضل بناء جسور معهم. إذ تفاجئنا بعض التصريحات الحكومية كل أسبوع، وتخذلنا مواقف عدد من المسؤولين الذين يفترض أن يقفوا في الضفة الثانية، وتذهلنا القرارات والتوجهات المتعلقة بالشأن المعيشي، رغم أن الغالبية الساحقة من الناس يستقرون في عمق الهوة، وفي قاع جديد، مؤلم ومرعب.

القضية لا تتعلق بما قاله مستشار وزير الاقتصاد غسان العيد، في تصريح صحفي نشر الأسبوع الماضي، فهذا غيض من فيض، وجزء بسيط مما يتحدث فيه عدد كبير من المسؤولين الحكوميين، لاسيما المعنيين بالشأن الاقتصادي. ويمكن الاستناد إلى ما صرح به المستشار الحالي والمعاون السابق لوزير الاقتصاد، للبناء على مواقف عمومية للمسؤولين، وتكمن الخطورة فيما يمكن البناء عليه مستقبلاً. إذ لم تتوان الحكومة من تسليط سيف تصريحاتها ومواقفها على المواطنين الفقراء والضعفاء اقتصادياً، وبدأت هذه العملية بشكل ممنهج، وقادت الحكومة حملات مضللة، تتهم فيها الناس بالتبذير، والإسراف، وعدم إدراك خطورة الوضع الاقتصادي، حتى وصل الأمر إلى تقديم بيانات غير دقيقة، لتمرير قرارات غير شعبية، وتمس الطبقات المستقرة في القاع.

هل نتذكر الحملات الفاشلة التي قادتها الحكومة، لتبرير الهدر في الخبز؟ لم تتجرأ الحكومة يومذاك على إلقاء القبض على واحد من ملايين السوريين بتهمة تبذير النعمة والإسراف في الخبز، أو في الحد الأدنى استخدامه لغير الغاية المخصصة له، أي بدلاً من أن يكون المادة الرئيسية على المائدة يذهب علفاً للثروة الحيوانية.

من يستطيع من المغلوبين على أمرهم، والذين لا أحد يساندهم، ارتكاب جرم اقتصادي كهذا؟ كيف يمكن لعشرات الأطنان من الخبز أن تقطع الطرقات وتمر على الحواجز التفتيشية، وتخرج من الأفران، دون أن تعرف بها الأجهزة الحكومية ذات الصلة؟ حتماً، هناك موقف حكومي مسبق من قضية تسعير الخبز، وكذا المحروقات، يهدف إلى تلبية صوت العقل المالي للحكومة، وليس صوت العقل الاقتصادي – الاجتماعي، وترجيح مصلحتها في تأمين موارد، على مصلحة الشرائح الفقيرة التي مازالت تأكل خبزاً وليس (الكاتو). القضية هنا، لايمكن اختزالها بالسعر المحدد للخبز، الذي تابعت الحكومة موقفها فيه بزيادات متلاحقة، إنما في الموقف الحكومي من المادة الغذائية الأساسية، بمعنى أنها كشفت عن نوايا مبيتة للانجرار باتجاه التخلي عن خطط وسياسات اقتصادية، لهذا الانجرار أثر سلبي اجتماعي وسياسي واسع، وكانت الحكومة في هذا الشأن تملك من الحس الليبرالي العارم، لتخرق الخط الأحمر الذي وضعته لنفسها، وخذلت الناس به.

 هذا مثال واحد، يعبر عن الطرق التي اتبعتها الحكومة التي تنعت نفسها بأنها حكومة حرب أو حكومة الأزمة، لا كما يصفها بعض الخبراء بأنها (الحكومة الأزمة)! وبالمسطرة ذاتها يمكن القياس على أسعار المحروقات، وأجور النقل، والرسوم والضرائب المفروضة، كلها مطارح سعت الحكومة من خلالها إلى زيادة مواردها، متبعة الطرق الاتهامية للمواطن، الذي لا حول له سوى كرامته، ومدى انتمائه إلى وطنه، فيما جيوبه فارغة، وبطنه خاوٍ. هذه السياسات المعلنة، هي التي ساهمت بشكل مباشر في تعميق الفقر في البلاد، وهي التي نقلت طبقات اجتماعية إلى طبقة المهمشين والمعوزين والفقراء والضعفاء اقتصادياً، وإذ لا ننكر أثر الأزمة الراهنة، والحرب الشعواء التي تدور رحاها منذ 56 شهراً متتالياً في البلاد، إلا أن ما يتعلق بالإجراءات الحكومية بهذا الشأن – أي زيادة عدد الفقراء – يثير التساؤل حول دور الحكومة الاقتصادي؟ وحول خططها لردم الفجوة بين الدخول ومستلزمات المعيشة؟ وموقفها الحقيقي وإجراءاتها المتخذة للتقليل من حجم الكوارث التي طالت حيوات الناس الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية؟

إن حكومة لم تتمكن بعد هذه السنوات من وضع برنامج تقنين كهربائي عادل، لمدينة عدد سكانها لا يتجاوز الملايين، لن تكون لديها القدرة ولا الكفاءة، لإدارة ملفات اقتصادية ساخنة. والحكومة التي لا تتجرأ على محاسبة مخطئ بعينه، لن يكون بمقدورها الحديث – نعم، مجرد الحديث – عن الشفافية والنزاهة.

حكومة كهذه، هي المسؤولة مباشرة عن الفقر المتغلغل في البلاد، وهي التي صنعت بإجراءاتها غير الشعبية، جيوب فقر مدقع خطرة، وهي التي أسست عبر توجهاتها لطبقة المسحوقين، كما أنها هي ذاتها التي تضع المواطن في قفص الاتهام دائماً، متذرعة بالاقتصاد وقوانينينه، وبالحرب وتداعياتها، فيما تتناسى أن الاقتصاد هو روح أيضاً، وأن للحرب أخلاقيات.

العدد 1107 - 22/5/2024