النظام الرأسـمالي في مأزق

 كان عام 1997 علامة خطر كبيرة كشفت التناقضات والأمراض التي يعاني منها النظام الرأسمالي العالمي. انهيار البورصة في تايلاند في تموز 1997 كان المحطة الأولى، واستمرت تفاعلاته لأكثر من عام. ومن هناك انتشرت الأزمة لتصيب الأسواق النامية في كوريا وماليزيا وإندونيسيا في شرق آسيا، والبرازيل في أمريكا اللاتينية، ووصلت ذروتها بانهيار البورصة الروسية في آب (أغسطس ) 1998.

وقد أدّت الانهيارات المتلاحقة إلى أزمات سياسية عميقة. ففي إندونيسيا سقط نظام سوهارتو إثر هبة جماهيرية لم تشهدها البلاد خلال 30 عاماً من حكمه. وفي روسيا تزعزع نظام يلتسن، فلجأ لإقالة أكثر من رئيس وزراء خلال فترة قصيرة جداَ، في محاولة لإنقاذ نظامه المهدد بالزوال، خاصة بعد أن بينت الأزمة عمق الفساد فيه. وبدأت مشاعر العداء لأمريكا تنمو في صفوف الشعب الروسي بعد أن نكثت أمريكا بوعودها تقديم المساعدات المالية لا عادة بناء الاقتصاد الروسي.

احد الأسباب الرئيسية التي أدت لهبوط قيمة العملات النقدية في تلك المواقع، وتدمير اقتصادها، هو المضاربة بالعملات ونقلها بين أسواق المال في أنحاء مختلفة من العالم، بهدف تحقيق الأرباح للشركات المصرفية المضاربة.

وقد تغير دور العملات من وسيلة لتسهيل تبادل البضائع إلى سلع يتم تداولها، وذلك منذ أن فقد الدولار قيمته الثابتة نتيجة إلغاء ارتباطه بالذهب. وأدت المتاجرة الحرة بالعملات إلى تركيز الأموال في أيدي تجار البورصة، مما جرد الحكومات من إمكانية التحكم بتوجيه الاقتصاد لمصلحة المجتمع ككل.

وتنعكس الفوضى الاقتصادية في التفاوت بين الاستثمار في الإنتاج الحقيقي والاستثمار في المضاربة. ففي حين يصل مجمل الاستثمار والتجارة في الإنتاج الحقيقي إلى 6,7 تريليونات دولار سنوياً، وتصل المبالغ المتداولة في (المضاربة المثمرة) إلى 20 تريليون دولار سنوياً، فإن أسواق المال تشير إلى أن مجمل الأموال المستثمرة في المضاربة يصل إلى 400 تريليون دولار سنوياً. ومن هذا يتضح أن الفارق الذي يبلع 380 تريليون دولار، ليس له أساس إنتاجي واقعي، وهو نتاج عملية المضاربة نفسها .(Luttwak, p.256)

إن هذا الرقم الهائل (380تريليون) يعادل12 ضعفاً للرقم الذي يحققه الاقتصاد الحقيقي المثمر. ويعني هذا أن أسبوعين من التداول في أسواق المال سنوياً، يكفيان لتغطية حاجات الاستثمار والتجارة العالمية، أما الـ 50 أسبوعاً الباقية من السنة، فتستغل للمضاربة بهدف الربح، لا بهدف الإنتاج.

وقد يتساءل المرء: لماذا لا يُستثمر هذا المبلغ الضخم في خلق أماكن عمل لملايين البشر الذين يفتقرون لمصدر الرزق؟ الجواب بسيط، فالأرباح التي تحققها المضاربة تفوق تلك التي يحققها الاستثمار في بناء المصانع، خاصة أنه لم يعد في السوق الرأسمالية مكان لمصانع إضافية يمكن أن تنافس المصانع القائمة. ويعتبر هذا الوضع من أشد التناقضات الكامنة في النظام الرأسمالي، فمن جهة تتعطش الأمم الفقيرة لرأس المال اللازم للتصنيع، بينما تتعطش الشركات الكبرى لمزيد من الأرباح، دون أدنى اكتراث للصالح العام.

في كتابه (المجتمع المفتوح في خطر – أزمة الرأسمالية العالمية) حذر جورج سوروس من انهيار النظام الرأسمالي العالمي بسبب التنقل الحر للرساميل، دون أن تكون للمجتمع الدولي إمكانية التدخل لمنع الكوارث. ويذكرنا سوروس: (إن النظام الرأسمالي العالمي الذي تشكل في القرن الـ 19 لم يعد موجوداً اليوم؟).

من الجدير بالذكر أن من يطرح هذا السؤال الاستنكاري هو ملياردير جمع ثروته من المضاربة بالعملات. وهو بحكم مصالحه يعرف تماماً أن مصير ملايين البشر ليس له أي دور في لعبة المضاربة. لذا فهو عندما يستثمر أمواله لا يعنيه وضع العملة المحلية في تايلاند أو ماليزيا أو البرازيل، وكل دورها بالنسبة له أن ترتفع أسعارها وتنخفض لتلائم توقعاته، لا أن تخدم مصلحة شعوبها.

وقد أثبتت أزمة البورصات التي حلت بالبلاد الشرق آسيوية وسبّبت إغلاق منشآت اقتصادية كبيرة وأفقدت العمال ودائعهم البنكية، أن مصير شعوب هذه البلدان أصبح هامشياً أمام لعبة التداول بالعملات التي يقاس نجاحها بحجم الأرباح التي تدخل جعبة المستثمرين.

بعد انهيار أسواق المال في الدول النامية عادت الرساميل إلى بورصة وول ستريت الأمريكية، وكانت قد تركتها سابقاً في عام 1987 إلى أسواق شرق آسيا بسبب انهيار سوق الأسهم الأمريكية. وكما أحدث اقتحام الرساميل الأجنبية لأسواق المال الآسيوية تضخماً في قيمة الأسهم أسفر عن انهيارها، فإن عودة الرساميل إلى نيويورك رفعت أسهم البورصة المحلية بشكل غير معقول، إلى درجة ان أسعار الأسهم تفوق أحياناً عشرة أضعاف قيمتها الحقيقية، وذلك بسبب دخول كميات هائلة من الأموال إلى البورصة، الأمر الذي يزيد الطلب على الأسهم ويرفع بالتالي أسعارها.

الحقيقة أن الرساميل التي هربت في الماضي من نيويورك إلى شرق آسيا، أدت إلى نمو سريع، ولكن غير مبرمج، للبنية التحتية الصناعية في البلدان الشرق آسيوية النامية. وراحت هذه الدول تنافس الدول الصناعية الكبرى المعروفة بمجموعة الدول الصناعية السبع g7) )في مختلف مجالات الإنتاج من السيارات إلى البتروكيماويات. وأدى هذا إلى إغراق الأسواق بالبضائع الشرق آسيوية الرخيصة، الأمر الذي هدد أرباح الشركات المتعددة الجنسيات. وكان عجز السوق عن استيعاب المنتجات الجديدة من جهة، والتطوير غير المبرمج لاقتصاد الدول ذات الأنظمة الفاسدة، من العوامل الأساسية لهجرة الرساميل وعودتها إلى نيويورك.

تقوّض (الحلم الأمريكي)

وهل اختارت الرساميل العودة تحديداً إلى نيويورك من باب المصادفة.؟ فقد تحولت الولايات المتحدة في ذلك العقد إلى جنة بالنسبة لشركات والمستثمرين، وقدوة يحتذي بها العالم كله، وبضمنه إسرائيل. ففي الاقتصاد الأمريكي يتمتع رأس المال بالحرية الكاملة، خاصة بعد إلغاء الكثير من قوانين العمل والضوابط التي قيدت نشاط الشركات حفاظاً على المصلحة العامة وحقوق العمال. وقلصت الدولة نسبة الضرائب المفروضة على الشركات، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الخدمات التي وفرتها الدولة لمواطنيها، في الصحة، التاْمين الوطني، الإسكان والتعليم وغيرها.

وجاء هذا التحول في السبعينيات نتيجة ثورة اجتماعية حقيقية قضت على ما يسمى بـ (الحلم الأمريكي) وكان أساس هذا الحلم التعاون الوثيق بين جهات ثلاث هي الدولة والشركات والنقابات العمالية، وأثمر هذا التعاون  ارتفاع مستوى المعيشة، حتى أن 80%من الشعب الأمريكي اعتبروا أنفسهم من الطبقة الوسطى. وكان سر هذا الازدهار تفوق الاقتصاد الأمريكي على العالم بعد الحرب العالمية الثانية التي أتت على اقتصاد اليابان وأوربا وتحديداً ألمانيا. وقد انتقضت فترة التفوق الأمريكي في مطلع السبعينيات، عندما بدأت المنتجات اليابانية الأرقى نوعاً والأرخص ثمناً تغزو الأسواق العالمية والأمريكية. يشار إلى أن الطبقات الوسطى تشكل أركان النظام الديمقراطي الغربي، ذلك أنها تخاف التمرد على النظام وتميل بطبيعتها إلى المحافظة. وليست الطبقات الوسطى وليدة طبيعية للنظام الرأسمالي الذي يميل بشكل طبيعي لسحق الطبقات الوسطى والإبقاء على طبقتين أساسيتين، هما الأقلية البرجوازية والأغلبية العاملة.

ويواصل الكاتب تحليله المتأثر بالتحليل الماركسي قائلاً:

إن وجود الطبقات الوسطى يمنع المواجهة الحتمية بين الطبقتين المتناقضتين، ويحفظ بذلك استقرار النظام الرأسمالي، ويتستر على طابع الدولة القمعي ويكسبها طابعاً زائفاً من التسامح والديمقراطية. ولدرء خطر الانسحاق عن الطبقة الوسطى، وجب في تلك الفترة ابتكار طريقة بديلة تلجم قوانين السوق وتحد من حرية الرأسمال. وكان هذا دور دولة الرفاه: ضمان الحد الأدنى من الحاجات للموطنين، وخلق نوع من الوفاق الاجتماعي بين الشركات والنقابات أساسه القبول بالنظام الرأسمالي، وبحق البرجوازية في جني الأرباح.

بدأ التراجع في برنامج الوفاق الاجتماعي في الولايات المتحدة في عهد الرئيس ريغان، فقد رفضت البرجوازية مواصلة تمويل دولة الرفاه، وتراجعت عن التزاماتها تجاه النقابات بسبب غلاء اليد العاملة الأمريكية، مما عرقل إمكانية منافسة الشركات اليابانية التي تعتمد على الأيدي العاملة الرخيصة. وكانت النتيجة أن دفعت الطبقة العاملة الأمريكية ثمن تعاونها مع البرجوازية، فتدنى مستوى معيشتها مقارنة بعمال أوربا واليابان، في حين زادت الشركات الأمريكية أرباحها.

وتشير كل المعطيات إلى تفكك الوفاق الاجتماعي في الولايات المتحدة. فحتى الحرب العالمية الثانية كانت الشركات تدفع 35%من الضرائب لخزينة الولايات المتحدة، أما اليوم فتدفع 12% فقط، بالمقابل تصل ضريبة الدخل التي يدفعها العمال قاطبة إلى 50%من الخزينة، أي ما يعادل أربعة أضعاف ما تدفعه الشركات. من هذا يتضح أن العمال يغطون برامج الرفاه الاجتماعية الخاصة بهم بأنفسهم (Luttwak,pp.230-240)

وما يشير إلى تراجع النقابات هو الأجور التي لم يطرأ عليها تعديل يذكر، في العقدين الآخرين. فبينما كان العامل الأمريكي يتلقى أعلى الأجور عام ،1984 تراجع  أجره اليوم إلى المرتبة الثانية في العالم. ويبلغ الحد الأدنى للأجور في أمريكا 15,5 دولارات للساعة، أما في ألمانيا فيصل إلى 12,37دولاراً للساعة.

ويشير هذا الفرق إلى وجود حتاة من سوق العمل المرن في أمريكا، وهو النوع الذي يسمح للشركات بفصل العمال دون قيود أو رقابة، ويتيح لها استغلال العمال غير المنضمين. وقد قضي في العقدين الأخيرين على 40مليون مكان عمل في الولايات المتحدة، الأمر الذي ساهم في كسر النقابات، وأرغم العمال على قبول العمل بأجور متدنية جدا ودون حقوق نقابية.

وقضت هذه العملية على شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، وعاد التناقض بين الطبقتين الرئيسيتين للظهور مجدداً. وفي مقابل الـ 20 % من السكان الأمريكيين الذين يتمتعون بامتيازات (القرية العالمية)، يعيش 26 مليون أمريكي من المواد الغذائية التي توفرها المؤسسات الخيرية. كما أصبح الفرق بين راتب مدير شركة أمريكية وراتب العامل الأمريكي، خيالياً. إذ قد يحصل المدير على أجر يفوق معدل ما يحصل عليه العامل ب 209 أضعاف، في حين أن الفجوة في اليابان لا تتعدى التسعة أضعاف. وبينما يتلقى مدير شركة يابانية كبيرة مليون ونصف مليون دولار في السنة يتراوح أجر نظيره الأمريكي بين 40 – 100 مليون دولار.

((luttwak, pp. 203-204

إن سياسة فصل العمال وتقليص النفقات لا تزيد نسبة الأرباح فحسب، بل تؤثر في ارتفاع أسعار الأسهم. وبما أن جزءاً كبيراً من مكوّنات رواتب المديرين عبارة عن أسهم، فإن سياسة الفصل تصبح أمراً مجدياً، إذ إن تقليص الأيدي العاملة يزيد رواتب المديرين بنسبة 13 %Luttwak,pp.230-240 ) ).العولمة إذاً، ليست مجرد ثورة معلوماتية، بل هي ثورة في العلاقات بين الدولة وأرباب العمل والعمال، لتحقيق أكبر نسبة من الأرباح للشركات، مما يفقد الدولة أبعادها الاجتماعية ومسؤوليتها عن ضمان رفاهية مواطنيها. وهذا هو جوهر الاقتصاد الحديث.

ضغوط أمريكية لتغيير الاقتصاد الياباني

مع توحيد الأسواق العالمية راحت الولايات المتحدة تمارس ضغوطها على ألمانيا واليابان حتى تتماشيا مع طريقتها الاقتصادية.

اليابان التي كسرت تفوّق الأمريكان وقوّضت حلمهم الاجتماعي في السبعينيات، أصبحت، بعد عودة الاقتصاد الأمريكي إلى موقع الصدارة في مطلع التسعينيات، مهدّدةً بتقوض حلمها المؤسس على مبدأ (العمل للجميع) و(صفر البطالة)، بعد أن دخلت أطول أزمة اقتصادية منذ الحرب العالمية الثانية.

تنتهج اليابان سياسة جمركية صارمة تمنع استيراد المنتجات الأمريكية، وتضمن بذلك بيع منتجاتها في سوقها المحلية بأسعار باهظة جداً قد تصل إلى درجات غير معقولة، وذلك لتغطي نفقات التصدير من جهة، ولتمكّن الشركات من تشغيل عمال بوظائف جزئية لتوفير أماكن عمل للجميع، دون أن يقلص هذا أرباحها.

إن الوفاق الاجتماعي الذي يسود اليابان يفسح أمام الحكومة مجالاً كبيراً لسن قوانين مختلفة للدفاع عن الصناعة المحلية. ويتميز الوفاق اليابان بالروابط الوثيقة بين البنوك والشركات والعمال، الأمر الذي يضمن استقرار المجتمع  ورفاهيته. من هنا فإن تأقلم اليابان مع نظام العولمة، وبضمن ذلك  إلغاء الجمارك أمام المنتجات الأجنبية، سيكون معناه تمزيق نسيجها الاجتماعي، الأمر الذي سيسبب فوضى وارتباكات في المجتمع الياباني قد تصل إلى حد الانقلابات السياسية.

إن الاقتصاد الياباني الذي كان مؤسساً على التصدير العنيف وحماية السوق المحلية من الاستيراد، لم يعد مناسباً لظروف العولمة.ونهج التسامح الذي اتبعته أمريكا تجاه السياسة الاقتصادية اليابانية في فترة الحرب الباردة بسبب المكانة الاستراتيجية الهامة التي كانت لليابان في احتواء الصين الشعبية، تغير اليوم بعد الأزمة الاقتصادية التي دخلتها اليابان نظراً لبنيتها الاقتصادية الخاصة، وازداد الضغط عليها لتتلاءم مع حاجات الاقتصاد الجديد.

مع هذا يشار إلى أن الضغط يبقى محدوداً جداً، نظراً لحيازة اليابان أموالاً طائلة. ففي عام 1995 سددت اليابان 60% من العجز في ميزانية كل من الولايات المتحدة وكندا والمكسيك مجتمعة. كما أنها تمتلك 250ملياردولار من أوراق المال التابعة للحكومه الأمريكية. وإذا توقفت اليابان عن تغطية العجز الأمريكي، فسيصبح على الحكومة الأمريكية إعلان إفلاسها(.Luttwak,pp.140-130)

الطريقة الاقتصادية الأوربية الخاصة

إن الطريقة الاقتصادية في البلدان الأوربية، وعلى رأسها ألمانيا، مختلفة عن الطريقة الأمريكية واليابانية. فالدول الأوربية تعاني أزمة بطالة تشمل 18 مليون عاطل عن العمل. وترتكز طريقتها على توفير مخصصات البطالة للعاطلين عن العمل، ومنح العمال أجوراً أعلى من تلك التي يحصل عليها العمال الأمريكان (معدل الأجور في المانيا مثلا 30 دولاراً للساعة، وفي الولايات المتحدة 20 دولاراً للساعة )(.Luttwak,pp203-204)

وإذا أرادت أوربا منافسة أمريكا، فعليها أن تغير أولاً نهجها الاقتصادي، وتلجأ إلى أسواق الأسهم العالمية لتمويل شركاتها، وتستغني عن الاقتراض التقليدي من البنوك المحلية الذي تتبعه حالياً تحسبنا لتدخل الرساميل الأجنبية في سياستها الاقتصادية. كما سيكون عليها أن تعمل على تغيير قوانين العمل بشكل يمكّن شركات الطاقة البشرية من الدخول بدل النقابات. والأهم من ذلك، سيكون عليها خفض الضرائب المفروضة على الشركات، وإلغاء مشاريع الضمان الاجتماعي التي تضمن الاستقرار وتمنع الإضرابات والثروات.

وتدرك الحكومات الأوربية تماما أن العودة للنظام الرأسمالي المطلق سيُدخل القارة إلى فوضى جديدة. وفي ألمانيا التي تعتبر أقوى الدول الأوربية اقتصاداً، أدى الاندماج بين شركاتها والشركات الأمريكية إلى بداية تغيير في نظامها الاجتماعي والاقتصادي – ولكن مع هذا فالدول الأوربية لم تحسم بعد خيارها: هل تسلم زمام الأمور للرأسماليين وتحسّن بذلك ظروف المنافسة مع الأمريكان، أو تترك الوضع على حالة الركود وتواصل تمويل مشاريع الرفاه لمنع الفوضى، الأمر الذي سيضعف صمودها أمام استحقاقات العولمة التي تدير دفتها أمريكا.

اتفاقية (ماستريخ) التي ابتكرت (اليورو) ليكون العملة الموحدة لأروبا ابتداء من عام ،2002 جاءت لتوحد السوق الأوربية وتمكنها من منافسة الاقتصاد الأمريكي – إن الشروط التي فرضتها ألمانيا على الاتحاد الأوربي، وأهمها عدم تجاوز عجز ميزانية الدول المشاركة فيها نسبة الـ 3% من الناتج المحلي الإجمالي، تشير إلى بوادر تأقلم أوربا مع النمط الأمريكي. وبذلك تكون الإرادة الأمريكية قد طغت على قرار المواطنين الأوربيين الذين استبدلوا بالحكومات المحافظة حكومات تتزعمها أحزاب اشتراكية ديمقراطية على أمل تحسين مستواهم.

لقد أدخلت العولمة عمالقة الاقتصاد الثلاثة، أمريكا وألمانيا واليابان، إلى عملية تغيير اقتصادي واجتماعي وسياسي خطيرة الأبعاد. إن حالة الاستقرار السياسي في طريقها للزوال والنظام الرأسمالي يتآكل يوماً بعد يوم، ويبشر بذلك احتداد التناقضات بين العمال وأصحاب الشركات، والاشتباك بين الطرق الاقتصادية والسياسية المختلفة التي تتبعها كل من الأقطاب الثلاثة.

«الحوار المتمدن»

العدد 1107 - 22/5/2024