القناعة ليست كنزاً…

(القناعة كنز لا يفنى)… مثَلٌ دارج زُرِعَ في وعي أجيال متلاحقة، مثل كثير من الأمثال الشعبية والموروثة التي تُردَّدُ كبديهيات، وهي في مجملها تحضُّ على الصمت وتُبرز محاسنه، وعلى قبول الأمر الواقع والاستكانة له، واللجوء إلى الغيبيات في معالجة مشاكل واقعية… الخ.

القناعة تحمل معنيين: إيجابي يتمثل في عدم التهور وقبول ما وصل المرء إليه على قاعدة: لم يكن بالإمكان أكثر مما كان، ليبدأ الإنسان أو المجتمع العمل من أجل تجاوز هذا الواقع، وهو ما نسميه الطموح أو الأمل.

ومعنى سلبي يتمثل في الركون إلى واقع مريض وظالم وبائس، مقابل الحصول على راحة وهمية هي أشبه بالمخدر الذي يوهمك بأنك تعيش في نعيم مقيم رغم أنك تقبع في أسفل سافلين…

وبين المعنيين تواريخ وحروب ودماء وثورات ولاجئون وعروش وقصور وأجهزة قمع وجيوش مدججة بالحقد.

بين القناعة بواقع مُختل لصالح أقلية حاكمة تملك كل شيء، الأرض وما عليها ومن عليها، والطموح إلى واقع جديد لن يأتي مصادفة أو نتيجة تطور طبيعي، بل يحتاج إلى تضحيات وجهود كبيرة، بينهما المسافة الفاصلة بين السكون والحركة.

السكون والحركة مفهومان فيزيائيان، السكون سهل بسيط، معادلاته لا تحتاج إلى كثير من التعب والبحث، محصلة القوى المؤثرة على الجسم الساكن معدومة، ولا تغيير يُذكر مع الزمن، السكون حالة أبدية مريحة وسهلة.

أما الحركة فمليئة بالتعقيد، خصوصاً إن كانت حركة غير مستقيمة وغير منتظمة، كما حركة التاريخ الجمعي أو الفردي أيضاً، معادلات الحركة معقدة ويصعب على الباحث حصرها وقوننتها بشكل نهائي، هناك دائماً وفي كل لحظة طارئ جديد يستوجب وضعاً جديداً وقوىً جديدة تُعيد التوازن إلى الجسم أو الكتلة.

لكن السكون سرعان ما ينتهي إلى الاستنقاع، وتكلّس المفاصل والحواف. الصدأ، والنخر، ظواهر مرافقة للسكون الذي يبدو في ظاهره حالة مريحة لكنه في نتائجه كارثي.

أما الحركة فرغم كلفتها وصعوباتها واحتمالات الفشل فيها أحياناً فهي تمنح الحيوية للفكر والجسد، وتفتح كل لحظة آفاقاً جديدة للتغيير والتقدم.

وفي كل مفصل تاريخي، في كل ثورة أو انفجار للصراع المجتمعي أو الوطني يأتيك من يقول إننا كُنّا بألف خيرٍ، ويقارن الوضع الطارئ نتيجة انفجار الصراع بما كان في حالة السكون المقيت، وهي مقولات ساذجة إذا أخذنا حسن النية طبعاً، فكلفة الحركة والطموح والتغيير المستمر مهما كبرت أقل من كلفة الصمت والسكون على المستوى التاريخي.

بسهولة بالغة يمكن عكس الفكرة على المستوى الشخصي، فالإنسان الراكن إلى وضعه دون بحث عن احتمالات جديدة للنجاح وطرق لتحسين وضعه هو إنسان بليد ومستسلم، ولن تكون له بصمة تُذكر في حياته وحياة مجتمعه.

أمّا الشخص الطبيعي فهو من يبحث باستمرار في تحسين وضعه وشروط حياته بابتداع وسائل جديدة واكتشاف طرق وأساليب تقوده إلى هدفه، وتحقيق طموحه.

الكون حركة، وإلاّ لما بقي إلى زمننا هذا مستمراً.

وكذا الإنسان والمجتمع، السكون موت، القناعة واليقين والمُسلّمات مقتل للأفراد والمجتمعات، ولا مفرَّ من وجود أُناس يخوضون المجهول ويسبرون أغواره في سبيل اكتشاف يطور الفرد والمجتمع.

المجد للشك… بئس اليقين!

المجد للفكرة الجديدة… بئس فكرة راكدة!

المجد للطموح والأمل… بئس السكون والثبات والاستنقاع!

العدد 1107 - 22/5/2024