هل يمكن أن تخرج ألمانيا من تحت العباءة الأمريكية؟

إن الموقع الجغرافي لبرلين في قلب أوربا يرتب عليها في أحيان كثيرة أن تكون مسرحاً لصراعات دولية، ومسرحاً آخر لحل هذه الصراعات أحياناً أخرى، رغم حجم الضرر الكبير الذي لحق بالشعب الألماني منذ مئة عام مضت حتى اليوم.. مثل هذه الجملة كان المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر يكررها دائماً.

لقد تيقن الألمان منذ أمد أن موقعهم الجغرافي ومبادئهم ومواقفهم ستكون دائماً عرضة للتساؤل ولهذا قرروا اليوم أن يخوضوا صراعاً جديداً يبدأ ببناء مسار تفاوضي بين القوى الدولية المتصارعة في محاولة لتسوية الأزمات الدولية العالقة، وإن فشلوا في بناء هذا المسار التفاوضي سيذهبون إلى قرارات جريئة نحو موسكو،وهذا ما سيصدم حلفاء ألمانيا، هكذا يتوقع كثير من المحللين السياسيين الغربيين.

بداية من غير الواضح حتى الآن إن كانت الخطة التي أرست معالمها وثيقة التفاهم بين الألمان والروس والفرنسيين مؤخراً ستنجح في إيجاد حلول مقبولة بخصوص وقف القتال والمعارك بين الحكومة الأوكرانية والمعارضين لها في إقليمي دونيتسك ولوغانسك شرقي أوكرانيا. البعض يعول على المجهود الألماني الآن الذي تبنّى هذا الطرح منذ البداية.

لقد بدأت أنجيلا ميركل بالفعل بإجراء اتصالات مع الرئيس الأوكراني بيترو يوروشينكو ونائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، لوضع أطر عامة لخطة سلام في شرق أوكرانيا تتضمن وقف القتال في دونيتسك ولوغانسك، والوصول إلى حلول سلمية لإيقاف الصراع والتوتر في الشرق الأوكراني الذي أفرز حالة غير مسبوقة من التصعيد منذ تسعينيات القرن الماضي بين الشرق والغرب، وتحديداً بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية.

هنا، وفي هذه المرحلة تحديداً، لا يمكن لأحد أن ينكر مدى الخلاف وحجمه بين واشنطن وموسكو حول أوكرانيا، إذ تعيش العاصمتان في حالة حرب سياسية ساخنة جداً قد تتطور مستقبلاً إلى صدام عسكري غير مباشر، وعلى الأغلب سيكون مسرح هذا الصدام شرق أوكرانيا وتحديداً في مدينتي دونيتسك ولوغانسك أو شواطئ شرق البحر المتوسط.

وما يعزز هذا الطرح ما دار من خلاف على هامش قمة العشرين العام الماضي، فبعد قمة ساخنة في مدينة بريزبين الأسترالية، بدا واضحاً مدى اتساع رقعة الخلاف بين موسكو من جهة، وواشنطن وحلفائها الغربيين من جهة ثانية حول الملف الأوكراني، وقد بلغت ذروة تصاعد الخلاف حينما صدّق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أواخر شهر كانون الأول من العام الماضي على الصيغة الجديدة للعقيدة العسكرية الروسية التي تعتبر حشد القدرات العسكرية للناتو من أهم الأخطار الخارجية، مع أن قيادة حلف الناتو ادعت آنذاك بأن موسكو ليست هدفاً للحلف مستقبلاً.. إلا أنه من الواضح أن الجهد الألماني المستمر منذ شهور قد أصيب ببعض الانتكاسات، فموسكو تخشى من عواقب خسارتها لورقة قوة في أوكرانيا، واليوم هناك تسريبات إعلامية بأن موسكو تستعد لعملية عسكرية مفاجئة داخل أوكرانيا في أي وقت تقوم فيه القوات الأوكرانية بدعم أمريكي وغربي على اقتحام مدينتي دونيتسك ولوغانسك شرقي أوكرانيا، واللتين تقعان تحت سيطرة معارضين للحكومة الأوكرانية.

وفي الوقت نفسه، هناك تسريبات إعلامية من قبل بعض قادة الناتو حول عدم السماح لروسيا بمساعدة المعارضين في شرقي أوكرانيا، هذا ما أكده هولاند وكاميرون، كما أكده الرئيس أوباما أيضاً، فقد قدم أوباما ضمانات للرئيس الأوكراني بيترو بوروشنكو على أن الغرب لن يسمح للروس باستباحة أرض أوكرانيا على حد تعبيره، ولو كان الثمن لذلك هو الدخول في حرب مفتوحة وشاملة مع الروس.

الألمان يعون كل هذه الحقائق، ويدركون أن الوصول إلى مسار تفاهمات بين الأطراف الأوكرانية المتصارعة في الشرق الأوكراني يحتاج إلى تفاهمات بين الأطراف الدولية على تطبيق فعلي لمسار هذه التفاهمات على الأرض، فروسيا لا يمكن أن تتنازل عن ورقة الشرق الأوكراني لصالح الغرب، والغرب، وتحديداً محور واشنطن – باريس – لندن، لا يمكنه أن يتراجع عن هدفه الرامي إلى محاولة إخضاع روسيا وتحجيمها ومنعها من الوصول إلى مراكز قوى جديدة بل ودفعها إلى الانكفاء إلى الداخل الروسي، كما يدرك الألمان أن واشنطن قد وضعت ثقلها في الفترة الأخيرة سياسياً واقتصادياً، في محاولة منها لتقويض الجهود الروسية الرامية إلى استعادة الدور الروسي وتوسيع تحالفاته شرقاً وغرباً، وتقلص هذا الدور إلى أقصى حد ممكن.

إن مجموع هذه التعقيدات التي تصادفها الجهود الألمانية تطرح تساؤلات مهمة، منها السؤال التالي: لماذا تستمر ألمانيا في محاولاتها لتقريب وجهات النظر بين موسكو وواشنطن اللتين تعيشان الآن على إيقاع حرب باردة جديدة قد تتطور مستقبلاً إلى حالة صدام عسكري؟

للإجابة عن هذا التساؤل نعود إلى بعض المعلومات التي يمكن أن توصلنا إلى الإجابة عن هذا السؤال، ومنها استطلاع أجرته مجلة (دير شبيغل) الألمانية في مطلع العام الحالي، إذ سئل الألمان حينها عن موقفهم من النظام الأمريكي وعلاقة ألمانيا بأمريكا.. فقال 47% منهم إن بلادهم ينبغي أن تصبح أكثر استقلالاً عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، الأمر الذي يدل على أن هناك توجهاً ألمانياً واسعاً يطالب بأن يكون لبرلين سياسة خاصة مستقلة عن سياسة واشنطن. وقبل هذا الاستطلاع (أي في عام 2014) تصاعدت الخلافات الإعلامية والأمنية بين الولايات المتحدة وألمانيا، وخاصة بعد الصدمة التي أصيب بها الألمان بسبب السياسة الأمريكية الاستخبارية التي استهدفت مراقبة أنشطة الداخل الألماني، ووصلت إلى درجة التجسس الأمريكي على الهاتف المحمول للمستشارة الألمانية ميركل بالذات!

كل هذا يدفع بألمانيا إلى الحذر في تعاملها مع واشنطن، ومقابل هذا الحذر، الانفتاح أكثر على موسكو، وبالفعل هناك انفتاح سياسي وشعبي ألماني على روسيا تحديداً وعلى الشرق بشكل عام.

أخيراً.. هل يمكن أن نسمع قريباً عن قرارات جريئة لبرلين تعلن من خلالها الخروج من تحت العباءة الأمريكية واللقاء مع موسكو؟ إن القادمات من الأيام تحمل في طياتها الكثير من المتغيرات في المواقف الدولية وفي جملة مشاهد الصراع الدولي حول موازين القوى وشكل العالم الجديد.

العدد 1105 - 01/5/2024