التضخم… واندثار الطبقة الوسطى

 هل التضحم الذي حصل في الفترة الماضية نتيجة طبيعية؟؟ الأكيد أنه كان للأزمة الخانقة التي مرت على سورية أثر كبير في الوصول إلى هذه النسبة من التضخم التي خنقت أغلبية الشعب وهشّمت البنيان، ولكن عندما نقول ذلك فهذا لا يعني أن الأزمة بعواملها المتداخلة الداخلية والخارجية هي فقط من أوصلت الأسعار والمستوى المعيشي إلى هذه الدرجة، وإنما هناك تضخيم مبرمج مفتعل من بعض ضعفاء النفوس وبعض تجار الأزمة وبعض الأدوات لبلدان كان هدفها الإسقاط الاقتصادي للجسد السوري رغم ادعاءاتها المنافقة بالوطنية، أو دفاعها عن الإنسان وحقوق الإنسان والديمقراطية، فكيف نصدّق سموّ أهداف من يقتل البشر بالتجويع، إضافة إلى الرصاص؟ إن ذلك هو ما جعلنا نقول إن الإرهاب الاقتصادي يوازي الإرهاب المسلح ويتفوق عليه. فمقابل المسلّح يوجد من يواجه أو يدافع، أما في مواجهة الإرهاب الاقتصادي فللأسف تثبّط كل الأدوات والسياسات والبرامج، ويسود غموض كبير واستغراب أكبر، وكلنا نذكر كيف جرى تنزيل سعر الصرف عندما تدخلت الجهات المختصة، بعد أن عجزت السياسات المالية التي أوحى المصرف المركزي بانتهاجها، وإذا بها تنعش البيئة المقوية للدولار على حساب الليرة السورية..

أكيد إن المعروض من السلع قد تقلص بكميات كبيرة نتيجة الحصار الاقتصادي من جهة، ونتيجة فقدان السيطرة على مناطق تحوي ثروات نفطية وغازية ومواد زراعية للاستهلاك أو سلع محتاجة للتصنيع..

ولكن، لمن يزاود ويتلطّى ويبرر بالأزمة ما تعانيه بلادنا من كوارث، نتيجة السياسات الظالمة والإرهابية التي تنتهجها أدوات إمبريالية استعمارية مرتبطة مافيوياً بالمنظومة الأم في أمريكا وأذنابها، وكل من يدور في فلكها، وحتى من ظننّا أنهم سيكونون السند والظهر لم يرتقوا إلى ما هو مطلوب، في ظل التصريحات عن موقع سورية ومكانتها، وأن سقوطها سيؤدي إلى انتقال كرة الدومنيو باتجاههم، فنحن بدأنا نتكلم عن التلاعب عندما كانت المخازين من السلع الغذائية والألبسة والأدوات الكهربائية وأدوات البناء متوفرة قبل الأزمة، وبالتالي لم يطرأ عليها أي تغيير في التكاليف، ورغم  ذلك فإن فلتاناً كبيراً طال أسعارها، يترافق مع كل لعب بالدولار، في لعبة احترفها لاعبون مرتبطون بمشاريع وقوى هدفها قتل سورية اقتصادياً وعسكرياً.

وكان للتغييب شبه الكامل للمراقبة التموينية الدور المساعد والمساهم بتواتر كبير للأسعار وعرقلة تدخل المؤسسات الحكومية بالشكل الأمثل لعرض السلع سواء من حيث الكمية أو الأسعار، وكان كذلك للأدوات المالية والنقدية غير المناسبة والسليمة أثر سلبي مضعف ومزلزل لقوة الحكومة ومهيّج للأسعار، مما أدى لهذا التضخم والتضخيم المتراكم، وكانت هناك عقلية همّها فرض سياسات اقتصادية عجزت عن فرضها حكومة العطري والدردري التي سبقت الأزمة فقد كان لدينا حصانة ومناعة شكّلتها طبقة وسطى قوية نتيجة سياسات اقتصادية واجتماعية هادفة مترسّخة، أدت إلى شبه عدالة اجتماعية، وأدت كذلك إلى أن الأسرة السورية كانت قادرة على العيش بشكل وسطي ومكتفية غذائياً، وبالتالي شبه استقرار للمجتمع، باستقرار أغلب أفراده، ولكن اللعب بهذه الصلابة لتهشيم البنيان والوصول إلى الفوضى كان مطلباً أساسياً لمن تتقاطع أفكاره ومصالحه مع الغرب ولمن لا يقبل إلا بالتمايز الاستهلاكي والفكري ولو على حساب البلد، ولو كانت أفكاره سوداوية قاتلة للمواطن وللوطن.

ولكن ما لم ينفذ بقرار وأفشل بشكل تكافل جماعي نُفّذ بمساعدة مجموعات مسلحة، وهو ما وجدناه في تدمير معامل القطاع العام والمدارس والمستشفيات والبنى التحتية، وكأن هناك من أراد أن يخصخص ويسحب سيطرة الحكومة عن العملية الاقتصادية حالياً ومستقبلاً ليتفرد هو بالعملية الاقتصادية، ولإرضاء البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وأدواته المرتبطة بهما، وهو ما لاحظناه من خلال ضعف أداء مؤسسات التدخل التي تستقدم بضائعها من تجار المواد أنفسهم في السوق المحلية. وكان هناك تثبيط لعمل مؤسسات التجارة الخارجية وضعف في أداء الخطوط الائتمانية لدول كان يجب أن يكون موقفها أقوى. وهناك من يتساءل مستغرباً عن السياسات التي أدت إلى زيادة حجم التضخم، وهو يتناسى النهج الاقتصادي قبل الأزمة الهادف لسحب سيطرة الحكومة عن العملية الاقتصادية والخدمية وسحب كل آليات السياسات الهادفة للتوزان الاجتماعي وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية. وترافق هذا النهج بألعاب جديدة مكملة لما بدأت الدردرة بتنفيذه، كضعف دور الرقابة التموينية على الرغم من تشكيل وزارة لهذا الخصوص…وضعف المراقبة والمتابعة والمحاسبة…واللعب بالدولار بعواصف هبوط ونزول وعدم محاولة الإحاطة بسعر الصرف، وكلنا تكلمنا عن أدوات أعطت نتائج عكسية، ولم تكن موجات الهبوط إلا بتدخلات مؤسساتية بعيدة عن الواقع المالي والاقتصادي، وكل هذا كان في بدايات الأزمة وكلنا يعلم أن احتياطي النقد الأجنبي قبل الأزمة كان يفوق 20 ملياراً، عدا ما كان يُكتنز بأيدي المواطنين، وكانت لعبة الدولار والأسعار من أكثر الأدوات إساءة للبيئة الحامية للوطن السوري وللطبقة الوسطى المهشمة أصلاً قبل الأزمة….

فإذا أضفنا الفساد المستشري الذي تضاعف خلال هذه الأزمة، فإن كل هذه الأمور جعلت الأسرة (المكونة من 5 أشخاص التي كانت بحاجة لنحو 30 ألف ليرة قبل الأزمة) بحاجة إلى نحو 6 أضعاف، أي ما بين 150-180 ألف ليرة سورية، والسؤال المحير: كيف يعيش من بقي من الشعب السوري ويؤمن معيشته في ظل هذه المعطيات؟!

ولمن ينظّر فإن الآثار الأكبر وخاصة سعر الصرف يجب أن تظهر بعد الأزمة وليس خلالها، لأن وظيفة الاحتياطي النقدي هي خلال الأزمات.

أبرز الانعكاسات الناجمة عن هذا التضخم الكبير

* اندثار الطبقة الوسطى، وهي الموازن الأهم لأي بنيان، وحاملة الثقافة، وجسر التحولات الهادئة في المجتمع.

* ارتفاع الأسعار نحو 6 أضعاف.

* ارتفاع معدلات الفقر لدرجات غير مسبوقة وتحول أكثر من نصف الشعب السوري إلى بطالة سافرة، وهجرة الكثير من الكفاءات والتقنيين، وسهولة انجرار البعض وانقيادهم لمشاريع لا تخدم الوطن.

الطبقة الوسطى في أي بلد هي حامية المجتمع إذ تحافظ على التوازن، وكلما كبرت وانسجمت زادت صلابة البلد ومناعته ضد أي محاولات خارجية للنيل منه.

للطبقة الوسطى معياران: أخلاقي، ومالي..قبل الأزمة نصحنا وحذّرنا من انهيار الطبقة الوسطى لأنه يعني انهيار للبلد، وهو الهدف، من خلال السياسات التي سيق بها وحاول البعض فرضها، ولكن مناعة وصلابة الإرث الفكري التاريخي والعقلية السورية المتجذرة عاندت هذه السياسات التي كانت النواة والمدخل لتهشيم المجتمع السوري ولصناعة بؤر ومناطق من البطالة والفقر، وكذلك كان هناك إفساد مبرمج لقتل روحيتها، علماً أن البعد الأخلاقي مرافق للبعد المالي في رسم حدود هذه الطبقة، وقد كان هدف سياسات الخصخصة: سحب إدارة العمليات الاقتصادية من الحكومة، وسحب ما سمي الدعم، ورفع الضرائب والرسوم وأسعار الطاقة، وعدم التعيين على أساس الكفاءة وإنما القبول بالسير بسياسات كهذه.

المطلوب اليوم

التدخل المباشر بسلع تقوم مؤسسة التجارة الخارجية باستقدامها.

ترشيد الاستيراد والأفضلية للغذاء وللأدوية وللمواد الأولية اللازمة للصناعة..

خفض سعر الصرف عبر سياسات نقدية تنطلق من الواقع ومن المصلحة العامة

إصلاح القطاع العام…القضاء على الفساد واتباع سياسة تعيينات تعتمد على الكفاءة والمهنية.

دولة مثل سورية بشعب عميق متجذر تسارع الدول لجذبه قادر على العودة القوية في ظل الثروات المتوفرة ولنا أسوة بما حصل باليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية وخروجهم مدمرين وما وصلوا له نتيجة ثقافة متراكمة ومتجذرة الأفق جميل إن عرفنا استثماره.

العدد 1105 - 01/5/2024