عودة إلى جوهر التنمية

تركز الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية في المؤسسات الدولية اليوم على أهمية إشراك المجتمع المدني في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، وضرورة الاستفادة من الطاقات المادية والإدارية والرقابية لهيئاته ومنظماته المختلفة، باعتبارها المستفيدة الرئيسية- كممثلة لأوسع فئات المجتمع – من ثمار هذه التنمية.

عَرّف إعلان (الحق في التنمية) الذي أقرته الأمم المتحدة في عام 1986 عملية التنمية بأنها (عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تهدف إلى تحقيق التحسن المستمر لرفاهية كل السكان وكل الأفراد، والتي يمكن عن طريقها إعمال حقوق الإنسان وحرياته الأساسية).

وداعاً للنموذج الغربي

لقد اندثر النموذج الغربي للتنمية الذي أسسته الرأسمالية الأوربية متأثرة بوجود الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية الأخرى بعد الحرب العالمية الثانية، وقام على مفهوم السوق وآلياته من جهة، وتدخل الدولة وهيئات المجتمع المدني من جهة ثانية، وأنتج تنمية اقتصادية واجتماعية مطعمة بقوانين العدالة الاجتماعية في أوربا الغربية. وسادت بعد ذلك مفاهيم الليبرالية الاقتصادية الجديدة منذ منتصف ثمانينيات القرن المنصرم، التي اختزلت عملية التنمية في البلدان النامية باتجاه وحيد، هو السوق الحر من كل قيد أو تدخل أو توجيه من قبل الحكومات، وعملت الولايات المتحدة والصناديق الدولية على تصدير هذا النموذج مستغلة حاجة الدول الاشتراكية سابقاً، والدول النامية الأخرى إلى إعادة هيكلة اقتصاداتها بعد انهيار الاشتراكية، لكن هذا النموذج فشل في تحقيق تنمية اقتصادية فاعلة في مجموعة من الدول، وصار لزاماً على الدول الفتية الساعية إلى تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية البحث عن مخرج لتخلفها الاقتصادي والاجتماعي، بانتهاج اقتصاد مختلط تندمج فيه آليات السوق مع التخطيط للتنمية الاجتماعية، أي مشاركة الرأسمال الخاص وقطاع الدولة في توليد فرص جديدة لزيادة الدخل الوطني، عن طريق تشجيع الصناعة والتجارة والاستثمار، والحفاظ على قطاع عام اقتصادي فاعل، وقيام الحكومات بالإشراف على إعادة توزيع الدخل الناتج بين الفئات الاجتماعية عبر شبكة واسعة من الخدمات التي تستهدف الفئات الأقل دخلاً كالتعليم..والضمان الاجتماعي..والصحي..وتنمية المناطق المتخلفة، واستهداف بؤر الفقر، تلك المهام التي لا تدخل في برامج القطاع الخاص وخططه.  

وبعد الانهيار الكبير الذي ضرب قلعة الرأسمالية العالمية في 15/9/،2008 وتلاشي مفاهيم الليبرالية الاقتصادية الجديدة التي تسببت في هذا الانهيار، عادت الحكومات في الدول الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، إلى تفعيل دور الدولة في الحياة الاقتصادية والرعاية الاجتماعية، وظهر بشكل جليّ أهمية إشراك منظمات المجتمع المدني في اتخاذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية، بعد سنوات من تفرد الأسواق المالية والمصارف الاستثمارية الكبرى في احتكار القرار الاقتصادي.

سورية والتنمية

رغم الإنجازات الاقتصادية..والتطور الاجتماعي النسبي الذي حصل في سورية خلال العقود الأربعة الماضية، لكن الحقيقة المائلة أمام الجميع هي عجز الدولة عن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، هذا العجز أصبح جلياً بعد سنوات من دفن الرؤوس في الرمال، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، كذلك لم يتصدّ القطاع الخاص لتنفيذ خطط التنمية، لأسباب تتعلق بسياسات التخطيط الحكومي المركزي، التي استبعدت مبدأ الشراكة مع الرساميل الوطنية حتى بداية تسعينيات القرن المنصرم، وأيضاً بسبب سعي القطاع الخاص الدائم نحو جني العوائد الاستثمارية والأرباح من جانب، وعدم اكتراثه بالأهداف الاجتماعية لهذه التنمية من جانب آخر.

انتهجت سورية مبدأ التعددية الاقتصادية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبدأت فيها عملية إعادة هيكلة للاقتصاد الوطني منذ عام ،2000 استهدفت بشكل تدريجي التخلي عن التخطيط المركزي، والتوجه الاشتراكي والتحول نحو اقتصاد السوق، ومحاولة إشراك القطاع الخاص لإحداث تنمية شاملة. لكن لم تتوازن السياسات الهادفة إلى تكريس اقتصاد السوق، مع السياسات الساعية إلى التنمية الاجتماعية، إذ أعطيت الأولوية لتشجيع القطاع الخاص، وسُنّت التشريعات التي تحفز الاستثمارات الوطنية والأجنبية على توظيف ملياراتها في قطاعات الإنتاج المختلفة، فازدادت نسب النمو خلال السنوات الماضية، وتطورت أرقام التجارة الخارجية، وظهرت المصارف وشركات التأمين الخاصة، وبلغت مساهمة القطاع الخاص في الناتج الإجمالي 70% في عام 2009. لكن بؤر الفقر اتسعت، وتجاوزت نسبة الفقراء 40%، وتراجعت الأجور الحقيقية، وارتفعت أسعار المواد الأساسية، ورفضت البطالة -حسب تعبير مسؤولينا الاقتصاديين آنذاك- التخلي عن عنادها، فلم تستجب لإجراءات الحكومة لتوفير فرص العمل، إما لأنها عنيدة، أو بسبب هشاشة هذه الإجراءات.

ولاشك أن السياسات الاقتصادية كانت أحد الأسباب التي أدت إلى حالة غضب شديدة من جانب الفئات الفقيرة والمتوسطة في البلاد بعد ارتفاع نسب البطالة والفقر، وتهميش مطالب الجماهير الشعبية..واتساع الهوة بين الطبقات والفئات الكادحة من جهة، ومن الجهة الثانية رأسمالية طفيلية وأثرياء جدد، سيطروا على مفاتيح الاقتصاد الوطني، مهمّشين قطاعات الإنتاج الحقيقي كالصناعة والزراعة لصالح الاقتصاد الريعي. وعبرت الجماهير الشعبية عن استيائها بأشكال مختلفة أخذت بداية طابعاً احتجاجياً في الأحزاب السياسية والنقابات ووسائل الإعلام وبقية مكونات المجتمع المدني السوري، ثم تشارك هذا الغضب، خاصة بعد تطبيق سياسات اقتصادية نيوليبرالية بين أعوام 2006و ،2010 مع أسباب سياسية تتعلق بضرورة الإصلاحات الديمقراطية، في إثارة الجماهير الشعبية التي عبرت عن استيائها بالنزول إلى الشوارع، والمطالبة بإصلاحات اقتصادية وسياسية تفتح الآفاق أمام تحقيق التنمية الشاملة. لقد استغلت القوى الرجعية في الداخل، والإمبريالية الأمريكية وحلفاؤها الأوربيون الأحداث السورية، وبالتحالف مع حكام النفط وتركيا العثمانية، أدخلوا سورية في نفق أزمة كان الهدف منها إركاع بلادنا، وتقسيمها..وإلحاقها بمنظومة (الكانتونات) الطائفية والعرقية، وضرب محور مقاومة الكيان الصهيوني المتخفي وراء جميع المخططات الأمريكية في المنطقة.

إعادة الإعمار.. والتنمية

لقد طرحت تداعيات الأزمة السورية..وما سببه الإرهاب من ضرب..وتخريب..وحرق للبنية التحتية.. والمنشآت الاقتصادية، والمآسي المتعددة التي أصابت ملايين السوريين (الهجرة..الفقر..البطالة.. تدمير المنازل) طرحت أمام الحكومة السورية مهمة إعادة الإعمار، وبدأت أوساط دولية مرتبطة بالمنظمات والصناديق الدولية بتحضير سيناريوهات متعددة.

 إن إعادة الإعمار بعد طرد الغزاة..وبعد التوافق بين مكونات الشعب السوري السياسية والاجتماعية على مستقبل بلادهم، ليست توجهاً تنموياً شاملاً إلاّ بالقدر الذي نريده.. فالبعض فهم من إعادة الإعمار مجرد أبنية وشبكة للبنى التحتية..وآخرون يرون فيه فتح الأبواب أمام المساعدات والقروض.. والعقود.. والسمسرة..وبرامج المؤسسات الدولية. من هذه الزاوية، وبالنظر إلى إخفاقات الخطط التنموية في الماضي، لا بد من جهة ثالثة غير الحكومات والقطاع الخاص، تساهم في عملية التنمية، مستفيدة منها..حريصة عليها أكثر من حرص الحكومة المتواضع على تلبية متطلبات التنمية الاجتماعية، وأكثر من حرص القطاع الخاص المتردد..الذي يفضل استثمار أمواله في المشاريع ذات الدورة السريعة للرساميل. إنها المجتمع بجميع فئاته ومنظماته المدنية الطوعية.

إنّ توسيع المشاركة الشعبية، عن طريق المجتمعات الأهلية في الريف، وهيئات المجتمع المدني على تنوع تنظيماته، في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، يضمن لهذه العملية سيرورتها المنطقية الملبية لمصالح الجميع، لكن هذه المشاركة تتطلب تشجيع منابر التحاور وتبادل الأفكار والتعبير عنها بحرية، وإقامة قنوات مفتوحة بين المواطنين والدولة، وسن التشريعات المحفزة على تشكيل هذه المنظمات الطوعية، وتعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني لتأتي تعبيراً عن خيارات المجتمع،كما تقتضي تكريس سيادة القانون، وتوفير الآليات الفعالة التي يمكن للمواطنين من خلالها ممارسة حقوقهم التي ينص عليها الدستور، كما تتطلب قناعة من القيادة السياسية والاقتصادية بأهمية الآخر..ورأي الآخر.. والفائدة من مشاركة الآخر..

أخيراً.. لا يمكننا الحديث عن أي تنمية أو إعمار دون نجاح الجهود الدولية والداخلية لإيجاد حل سياسي للأزمة السورية، فاستمرار الحلول العسكرية يعني مزيداً من سفك الدماء والتدمير واستبعاد خطط الإعمار والتنمية.

العدد 1107 - 22/5/2024