بارانويا التحرر الفكري

 إن حسن التّربية واستقلال الإرادة هما عاملان أساسيان لتقدم الرّجال في كلّ زمانٍ ومكان، وهما مطمح وآمال كل أمة تسعى إلى سعادتها، وهما أشرف الوسائل لبلوغ الأمة ذلك الكمال الذي أعدّت له ورنت إليه. فكيف لعاقل أن يدّعي أن لهذين العاملين أثراً آخر سيّئاً في نفوس النّساء؟

ولمّا كانت حرية التعبير والرّأي وحرية التصرف والاختلاط المجتمعي حكراً على الرّجال، قبالة فرض الكبت الفكري والتّبعية السلوكية على النّساء، ظلّت مجتمعاتنا ترزح تحت أثقال التّفكك الثقافي والجدال بين الأنا والهوَ، مقيّدة بسلاسل العادات والتقاليد الموروثة من أزمنة أفَلت بلا عودة. فللأسف ورغم التقدم والتبدل الفكري والثقافي، لم يكفّ المجتمع عن تعزيز نزعته الذكورية المحضة لتكريس مبدأ الضعف والقوة، وترسيخ قاعدة أن المرأة هي الضّلع الأعوج الذي لا يُقوّم إلاّ بكسره، ناقصة عقل ودين. لعلّه جذر أساس لحقوق الرجل المُضاعَفَة في الميراث والمسؤولية القانونية! ولكن وكما يقال لاشيء يمكنه أن يمنع فكرة حان وقتها، والأفكار أقوى من الجيوش، وهي فقط من يقاوم الأفكار لأنها كالماء تخترق المسام والتصدّعات في المجتمعات ذات النّظرة السلبية والسلوكية العنيفة تجاه المرأة كقضية من جملة قضاياه العالقة.. فقد أُطلِقت أعنّة الأقلام من كل حدب وصوب، وعلت أصوات الحقيقة مطالبة بحقوق المرأة سواء في التعليم أو العمل، وحرية الاختيار واستقلال الرأي ورفع الحيف عنها بعد أن كانت قاب قوسي الانتقاص والعيب.

لكن ما من محاولة أو مغامرة_ لاسيما من الرجال_ لقلب الأفكار والمعتقدات، أو رفع الظلم والإجحاف، والمناداة بالحقوق، قد تنجو من الخطورة التي قد تصل حدّ إقصاء تلك الأقلام والآراء بالعنف وتسطيح الأفكار وتفريغها بالتكفير والنقد الهادم ومواجهة الحق بالباطل، من باب التمسّك بالهوية الأخلاقية التي قُدَّتْ على مقاس أدمغة أكل عليها الزمن وشرب. فاليوم وكل يوم ما من شعب سيرتقي إلاّ بِكُلّه رجالاً ونساءً، وما من قيمة ستتحقق إلاّ بتثمين جميع مكوناته وأفراده دونما فصل أو تجريد، (فالسخرية والعبث كل ما تبقى لشعب سخيف وجاهل وبسيط)_ قالها أحد أنبياء الكلمة (فيودور دوستويفسكي). فمن المؤكد أننا لا نحفل كثيراً بأننا شعب تافه وسخيف، فنحن كذلك ولو ارتقينا أدراج السماء، ما لم نقف على أساس العدل والمساواة والإنصاف في الحقوق والواجبات، والكفّ عن التفاضل والتفضيل ما بين المرأة والرجل، وما لم نقوّض عروش العنف الأسري تجاهها، والعنف المجتمعي تجاه العقول والأفكار التي ساقت نفسها لتقدّم الإنسانية خطوات متلاحقة باتجاه الحضارة.

العدد 1105 - 01/5/2024