قـراءة في كتاب «التنمية المضيّعة في البلدان العربية» (*) (2)

 إلى المزيد من ظاهرة الاستقطاب الطبقي والفئوي، ثم إن كل الشعارات والأهداف المركزية التي كانت كلمة (استكمال) تتقدمها، تُركت دون استكمال، من بين أهمها على سبيل المثال، وتفاصيل البعض منها موضح بثنايا الكتاب الذي نحن بصدده:

– استكمال حل المسألة الزراعية لمصلحة المنتجين الزراعيين.

– استكمال مشروع بناء القرى الجديدة ورفدها بالخدمات الضرورية.

– استكمال العمل بالتنظيم التعاوني ودعم مقوماته.

– استكمال عملية التصنيع.

– استكمال مهمات القضاء على البطالة.

– استكمال مهمات القضاء على الأمية ونشر التعليم.

لكن الذي جرى استكماله حقاً، هو بناء (قطاع عام) قوي، هيمن على أهم المؤسسات والقطاعات الاقتصادية للمجتمع، وقد سمحت سمفونية بناء (جزائر اشتراكية) لهذا القطاع العام أن يسمن، وأن يلتهم معظم مواقع الاقتصاد الوطني، وبشراهة، ومع ذلك، فهذا النمو المستحث بقوة للقطاع العام، لم يعدم فرص نمو القطاع الخاص، خاصة في تلكم المرافق التي اعتادت فيها كفاءته أن تكون بلا منافس، مثل التجارة والمقاولات والبناء.

ويمثل الجزائر نموذجاً لحالة الانقطاع في عملية التنمية، فإذا كان مُهماً البدء بمشاريع التنمية، فالأهم من ذلك، هو الاستمرار بها إلى نهاية الشوط، أي استكمال نسيجها المتكامل، وعندما تعجز التنمية عن إنجاز منظومتها الاقتصادية والتكنولوجية المتكاملة، وبناء قاعدتها الإنتاجية والخدمية القادرة على التغذية  المستمرة لعملية الإنتاج الموسع المحقق للنمو الذاتي، تكون انعكاسات العلاقة ما بين الارتباطات الخلفية والأمامية، وعموم التشابكات الاقتصادية والقطاعية، وقد اضطربت موازينها، وازدحم الاختلال في كل مكوناتها، وتكون التنمية، بالتالي، كالذي عرفته تجربة الجزائر، تضخماً وبطالة وتدهوراً في مستوى المعيشة ومديونية وو.. جزأرة!

ولنقرأ في الختام ما أورده المؤلف عن التقرير الاقتصادي لاتحاد الغرف التجارية العربية عام ،1994 فقد جاء فيه: إن نحو ثلاثة أرباع احتياجات الجزائر الغذائية مستوردة من الخارج، على الرغم من أن لدى الجزائر مجالاً واسعاً للاكتفاء الذاتي من ناحية الغذاء (صفحة 66).

الجزائر، ذلك البلد القاري الهائل بإمكاناته الزراعية.. يستورد ثلاثة أرباع غذائه من الخارج.. فكيف تكون فضائح التنمية المُضيَّعة إذاً!؟

كرس الباحث د.مجيد مسعود القسم الثالث والأخير من كتابه لدراسة واقع الخصخصة في قطر، وآفاق تطورها بالعلاقة مع عملية التنمية الجارية فيه، وتمتع هذا القسم بأرقام حديثة، وجداول وبيانات وضّحت نسيج الناتج المحلي الإجمالي القطري ومكوناته، ومساهمات القطاعات المختلفة فيه: العام والمشترك والخاص والتعاوني، ومن القراءة التحليلية لهذا القسم نلمس الحقائق الأساسية التالية: الباحث إذ يسترشد بنظرية المثلث وما يمكن تسميته المثلث المتطور لدور الدولة: حارسة- متدخلة- موجهة، مستذكراً المصطلح الخلدوني لدولة العمران، مستخدماً المنظور الإسلامي لوظائف الدولة الحديثة- وإن كان من الصعب هضم العلاقة فيما بين دولة حديثة يراد لها أن تبنى من منظور إسلامي، لأن دولة الإسلام المثلى هي دولة السلف الصالح، وليست أية دولة حديثة- فإنه يؤكد نموذج الدولة الموجهة في التجربة القطرية، فمع كل التسهيلات والتشريعات والدعم المقدم من قبل الدولة لتنمية القطاع الخاص، فإن نحو أربعة أخماس القوى العاملة القطرية تعتمل لدى القطاع العام والجهاز الحكومي، ومن هنا فإن فرص النمو أمام القطاع الخاص، وإحلال مؤسساته محل مؤسسات القطاع العام، أو عبر تلاقحهما معاً في قطاع مشترك، مازال محتفظاً بآفاق كبيرة، وتجد هذه الآفاق مصداقيتها من خلال الاستراتيجية التنموية المعتمدة بتأكيد دعم نمو القطاع الخاص في كل الميادين التي يجد نفسه قادراً على تأديتها بكفاءة وربحية.

ومع أن الاقتصاد القطري يجد نفسه وقد أرسى الدعائم الاقتصادية لدورة صغيرة ناشئة، وعزز من هيكلية مؤسسات القطاع العام فيها، إلا أنه يتصرف وكأنه يستبطن بروح براغماتيكية لا مجال فيها حتى لثوابت الأيديولوجيا، أن المزيد من التوجه نحو اقتصاد السوق وتعزيز آلياته، وما يتطلبه ذلك من ضرورة المزيد من السرعة في انحسار دور الدولة في الحياة الاقتصادية مالكاً ومستثمراً وتاجراً منافساً للقطاع الخاص، كل ذلك دفع ببعض المفكرين إلى تشخيص هذه الحالة من عملية الانتقال في الطبيعة الأساسية للدولة، على أنها حالة انتقال من نموذج الدولة المسيطرة إلى نموذج الدولة المُدبرة House- Keeper، بالرغم مما قد يكون بشأن تفسيرها من اجتهادات متباينة.

يعود تاريخ التحول الجدي إلى ضرورة النهوض بمستوى مساهمة القطاع الخاص في دولة قطر إلى قرار المجلس الأعلى للتخطيط بتشكيل لجنة لدراسة سبل زيادة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي وتحسين مناخ الاستثمار بتاريخ 8/3/1993.

وبعد نحو السنتين عن ذلك، أثمر هذا التوجه عن إصدار سلسلة من القرارات والقوانين، نقتبس منها على سبيل المثال لا الحصر:

– في 22/5/1995 صدر قانون ديوان المحاسبة والقانون رقم 36 بشأن تنظيم أعمال الصرافة وحصرها بالقطريين.

– في 3/7/1995 شرع القانون رقم 14 بإنشاء سوق الدوحة للأوراق المالية.

– في 9/7/1995 صدر القانون رقم 19 بشأن التنظيم الصناعي.

– في 19/7/1995 أقر مجلس الوزراء من حيث المبدأ إنشاء بنك قطر للتنمية الصناعية كشركة مساهمة، مترافقاً مع القانون رقم 9 لسنة 1995 بشأن تنظيم استثمار رأس المال غير القطري في النشاط الاقتصادي، وهو القانون المعدل لمرسوم القانون رقم 25 لسنة 1995.

– في 2/9/1990 صدر المرسوم الأميري بالموافقة على انضمام دولة قطر إلى اتفاقية إنشاء الوكالة الدولية لضمان الاستثمار، وكذلك إلى منظمة التجارة العالمية WTO.

ومن هذه العينة التشريعية المختارة كما أوردها المؤلف تبدو سنة 1995 فاصلاً هاماً في تطور الحياة الاقتصادية في دولة قطر، إذ تبدو كأنها سنة التحولات التشريعية والمؤسسية، ونهاية لمرحلة أسهمت تراكماتها لأن تكون مصدراً لمرحلة جديدة، استمرت تضخّ البلد بوافر من تشريعاتها المؤسسية الجديدة، طموحاً في بناء دولة عصرية حديثة، تحرص أن تدبر بيتها الداخلي بمزيد من مقومات الوقاية والصيانة والتنشيط، وتفتح صدرها في المشاركة لرأسمالية محلية شبت عن الطوق، وغادرت مرحلتها الجنينية، وتطالب بمكان تحت الشمس، إلا أنها مع كل ما جرى لها من انفتاح مازالت أمام اختبارات عسيرة، وتساؤلات مازالت أجوبتها في عالم الغيب!

مثلما كان عام ،1995 يمثل قفزة تشريعية ومؤسسية، فهو في الوقت نفسه، عام الانطلاق- بمفهوم روستو- لخلق المزيد من البنى الفوقية، وإرسائها، لترغيب القطاع الخاص ودفعه وحمايته في أن يأخذ استحقاقات دوره الواعد في بناء البنى التحتية من عملية التنمية الاقتصادية في قطر، وعبر عملية التحول من بقائه مراوحاً ضمن أنشطته الاقتصادية التقليدية في ميادين التجارة والمطاعم والفنادق وبعض الخدمات التي تستأثر حصته فيها ربما نسبته 95% من القيمة المضافة، إلى حيث الميادين الأخرى من إنتاجية وخدمية.

إلا أن ما يلاحظه الباحث من خلال تحليل تجربة النمو القطرية، أن قطر تعيش حالة من تناقض موضوعي لا تقوى عتلاتها الذاتية على تجاوزه، بالسرعة التي تطمح به قيادة الدولة والمجتمع، هو التناقض بين إدراك هذه القيادة لضرورات انحسار الدولة عن ميادين الاحتكار والهيمنة والسيطرة ومتطلباته، وللعديد من جيوب الحياة الاقتصادية وقنواتها، والضعف المتوارث، الذاتي والموضوعي، للقطاع الخاص، في حمل أمانة التنمية، ودفعها بالاتجاه الذي يقوى على الصمود ومسايرة الخصوصة العالمية، وما يزدحم فيه بحرها من هوامير عملاقة وأسماك قرش كاسرة.

إن تساقط رذاذ عوائد الاقتصادي الريعي القطري، القائم على قطاعي النفط والغاز، قد أنعش فرص التراكم الرأسمالي الوطني، وهيأ الفرصة على مدى العقود الماضية لإمكانية الولوج الاستثماري، ولتلك الميادين التي كان محظوراً عليه من جهة، والقبول ببعض شظايا المخاطرة وشراراتها، لرأسمال يمارس اقتحامه، ويجدر به أن يحمل دوافع المغامرة لتأكيد هويته، ومن الجهة الأخرى، إن عمليتي الإحلال والإبدال للاتجاهين المتعاكسين بين اتجاه ينبغي أن يكون منحسراً- وهو الدور الاقتصادي التقليدي للدولة المسيطرة- واتجاه ما ينبغي أن يكون متصاعداً في دور لقطاع خاص محلي، لم يملأ فراغات الاقتصاد الوطني بعد، يجد ضروراته ودوافعه، لا كاستجابة إيجابية لمجموعة المتغيرات المحلية والخليجية والإقليمية والدولية فحسب، بل من دواعي ما يسميه البعض من ظاهرة تآكل الريع، التي يتبنى كتاب (التنمية المُضيَّعة) نظريتها، كما وردت في الصفحات ،114 ،156 157.

هذا الموضوع حساس ومعقد ويزدحم بالاجتهادات والمتناقضات ولنظرية الريع بخاصة، التي منذ حاول ديفيد ريكاردو تنظيرها وتحليلها، مروراً بنظرية ماركس في الريع المطلق والتفاضلي ومن جاء بعده من مفكرين اقتصاديين عديدين لسنا الآن بصدد استعراض أسمائهم، وإلى اليوم وهي تستوعب المزيد من الأطروحات والتفاسير، ولذلك يصعب على الباحث الاقتناع بنظرية كلية واحدة ترتقي إلى مستوى المرجعية الفكرية، القادرة على الاستيعاب والإجابة، وبالنظر لما يمثله ريع النفط كعمود فقري لحاضر اقتصاديات كل البلدان ذات الاقتصادي الريعي النفطي ومستقبلها، فكل الجهود والمبادرات مطلوبة للاستمرار بدراسة هذه الظاهرة التي ينقسم معشر الدارسين لحاضرها ومستقبلها ما بين متشائمين وأكثر تشاؤماً، ومتفائلين وأقل تفاؤلاً، وإن الوقت الذي تخصصه كوكبة المفكرين والخبراء المعنيين باستجلاء حقيقة المجهول من طلسم الريع النفطي، ليس عبثاً فكرياً، بل ادخاراً معرفياً، في الوقت الذي باتت فيه المعرفة اليوم، أهم مصدر لثروة الإنسان المعاصر، إنسان الثورة العلمية والتكنولوجية.

وإذا كان من كلمة سريعة هنا، فإن المخاطر لا تكمن فيما يسميه الباحث (اتجاه الأسعار العالمية نحو الانخفاض) التي لا يمكن القبول بفرضية ثبات انكسار الخط البياني لأسعار النفط الخام وانحدارها نحو الأسفل على أنه دالة متناقصة دائمة- بقدر ما تكمن في كينونة الاقتصادي الريعي كياناً متخلفاً يمثل نموذجاً لاقتصاد ما قبل الثورة الصناعية الثانية، والقائم على عائد الأرض باعتبارها عنصر إنتاج أساسياً، في الوقت الذي ينعم فيه العالم المتقدم بمعطيات الثورة الصناعية الثالثة ومنجزاتها، وهي الثورة العلمية والتكنولوجية، ويرسي من خلالها مجتمع ما بعد الصناعي، معتمداً في أرجحيات نموه الاقتصادي على أسس العامل التكنولوجي، الذي بات يمثل ما نسبته 75-90% من مساحة قوى الإنتاج، على حساب عنصري العمل ورأس المال.

وحول موضوع ظاهرة تآكل الريع، التي تؤرق العديد من الباحثين ومتخذي القرار، وهم يستقرئون المستقبل بروح داكنة، متأثرين بمجموعة التقلبات والعوامل الطارئة ذات النفس القصير، التي دفعت أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها طيلة عقد مضى، سأجازف بفكرة أود من خلالها تطمينهم لذلك الذي أراه ببساطة، من أن النفط الخام يحمل فيروس مستقبله معه ، فهو مادة هيدروكربونية لا حصر لمشتقاتها الصناعية والتكنولوجية لأواصر تركيباتها الكيماوية العضوية المفتوحة، وهو مادة ناضبة تتحدّ قيمتها الاقتصادية في ضوء العلاقة ما بين معدلي الاستخراج والاستكشاف العالمي، وفي ضوء الاتجاه الموضوعي الدافع نحو المزيد من الاستخدام الصناعي والاستهلاك العالمي سواء بفعل العوامل الكمية المرتبطة بزيادة سكان العالم بطريقة مالثوسية تقريباً، أو بفعل العوامل النوعية الخاصة بطبيعة المتغيرات التكنولوجية المعاصرة الشديدة الارتباط بامتداداتها الأمامية والخلفية بمصادر الطاقة الهيدروكربونية، كل ذلك وغيره كثير كثير هو من سيُبقي على النفط محافظاً على قيمته الاقتصادية التبادلية، كاتجاه عام، وبما يمكن تسميته بريع الندرة المتزايدة Increased Scarcity Rent، وعليه فإن الحد الأدنى لمعدل ريع البرميل الحدي المنتج أن يكون معادلاً لمعدل كلفة إنتاج البرميل الحدي، مضافاً إليه أعلى سعر فائدة عالمي، زائداً القيمة التقديرية لمعامل النضوب، ويزداد الوزن النقدي لهذه القيمة التقديرية كلما اقترب العالم من موعد نضوب النفط، وكلما أخفق في العثور على احتياطيات تجارية جديدة، ومابين معامل القيمة التقديرية والزمن المستقبلي، علاقة تزاوج حميمة، إذ يعتمل هذا الزمن لصالح هذا المعامل، وهو الذي لا يرتبط معه بعلاقة طردية موجبة فحسب، بل بمتوالية عددية قد تتحول في بعض سنوات أو عقود القرن 21 إلى متوالية هندسية، ويكون بالتالي ما سيحصل في المستقبل المتوسط أبو البعيد، استرجاعاً لصدى صدمتي النفط الأولى والثانية اللتين عرفتهما السبعينات، فما زال في رحم النفط من الصدمات ما سنذهل من وقع مفرقعاتها مستقبلاً، ودعونا نقترب من عتبة الخيال العلمي بالقول، من أن صدمة النفط الثالثة في الزمن القادم، ستكون بقوة أساسية مضاعفة لمجموع ما أحدثته الصدمتان النفطيتان الأولى والثانية معاً، وستكون أرضيتها مهداً لتتويج نظرية ريع الندرة المتزايدة من جهة، وتكريماً لكل المتفائلين بمستقبل النفط، من الجهة الأخرى.

خاتمة الكتاب حملت العنوان التالي: الشرق أوسطية مدخل للهيمنة الاستعمارية، وهي مكتوبة بأسلوب خطابي تقريري يقرب إلى المستوى الإعلامي والصحفي، لذلك أطمح حفاظاً على الوحدة الفكرية للكتاب ومستواه، أن يتحرر في طبعته الثانية من هذه الزائدة الدودية ليصبح أكثر رشاقة وقوة، أقول ذلك لأن الكتاب جدير بالقراءة وبكلتا العينين معاً، عين تقرأه لذاته، وأخرى تقرأه لذاتها.

(*) تأليف الدكتور مجيد مسعود

الناشر: دار المدى- دمشق

العدد 1107 - 22/5/2024