تجارة الخدمات وتأثيرها على القطاع المصرفي السوري

 تعتبر الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات (غات) من أهم النتائج التي تمخضت عنها مفاوضات أورغواي، في العقد الأخير من القرن الماضي، إذ أتاحت توسيع نطاق النظام التجاري متعدد الأطراف ليشمل إلى جانب التجارة السلعية تجارة الخدمات ويأتي ذلك انعكاساً لما شهده العالم من التوسع السريع في الخدمات كثيفة المعرفة، فضلاً عن تزايد قابلية الخدمات للتبادل التجاري الدولي، إذ تشير الإحصائيات إلى تزايد أهمية التجارة الدولية للخدمات، إذ أصبحت تسهم بنحو 30% من حجم التجارة العالمية، بل لقد أصبح أكثر من نصف الرصيد العالمي من الاستثمار الأجنبي المباشر مرتبطاً بأنشطة خدمية، كما تتجه الآن أكثر من 60% (1) من التدفقات العالمية للاستثمار إلى القطاعات الخدمية، الأمر الذي دفع للاعتقاد بأن الاقتصاد العالمي يمر بمرحلة أصبح فيها تطور الأنشطة الخدمية شرطاً مسبقاً للنمو الاقتصادي وليس- مجرد نتيجة له فقط- وأصبحت نوعية الخدمات التي تقدمها الدولة مقياساً لمدى تقدمها الاقتصادي والاجتماعي.

وهكذا يتسع الدور الذي يؤديه قطاع الخدمات في تنمية الاقتصاد العالمي وتطويره خاصة في اتساع نطاق العلاقات الاقتصادية الدولية، وتنوع أشكالها، وما صاحب ويصاحب ذلك من نحو عمليات التمويل الدولية، والزيادة المستمرة لتحركات الأيدي العاملة، ورؤوس الأموال عبر الحدود والاتجاه المتزايد نحو تكثيف عمليات تدويل الأنشطة المصرفية والمالية.

ومع الاتجاه التدريجي لتحرير الخدمات المالية وعولمة النشاط المالي والتجاري تتزايد المنافسة ويثور التساؤل داخل الأوساط الاقتصادية والمالية حول مدى قدرة الأنشطة الخدمية الوطنية بوجه عام على العمل في سوق تنافسي مفتوح مع مؤسسات أجنبية ذات قدرات عالية ومتطورة ومدى قدرة القطاع المصرفي السوري بوجه خاص على الاستجابة لهذه المتغيرات، وتحديث الخدمات المصرفية بسرعة وكفاءة تمكنه من تنظيم ما يمكن أن يجنبه من عوائد، وتقليل ما يمكم أن يتحمله من أعباء أو تكاليف نتيجة انفتاح السوق المالي.

وفي ضوء ماتقدم يكون من الضروري أن نتناول بالعرض والتحليل ما يلي:

– الملامح الرئيسية للاتفاقية العامة لتجارة الخدمات.

– قطاع الخدمات في الاقتصاد السوري.

– التحرر المالي والاقتصادي السوري.

– القدرة التنافسية للقطاع المصرفي السوري- أبعادها ومحدداتها.

الملامح الرئيسية للاتفاقيةالعامة لتجارة الخدمات

الواقع أن الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات هي أول اتفاقية تجارية دولية متعددة الأطراف تشمل جميع الخدمات ذات الطابع التجاري، التي من أهمها: الخدمات المالية التي تغطي الأنشطة المصرفية والتأمينية، وأنشطة أسواق المال وغيرها، وكذلك خدمات النقل والاتصالات والمعلومات.. إلخ، وتجارة الخدمات على المستوى الدولي إما أن تكون مرتبطة بتجارة السلع (مثل خدمات الشحن والنقل والتأمين والتحويل والوساطة) أو منفصلة عن تجارة السلع (مثل الخدمات السياحية والاتصالات والاستشارات والخدمات المالية).

وتنقسم الالتزامات التي تقع على عاتق الدول الأعضاء في اتفاقية غات إلى مجموعتين رئيسيتين:

أ- الالتزامات العامة، وهي تطبق مباشرة على جميع الدول الأعضاء وتتمثل أساساً في الآتي:

1- الالتزام بمبدأ الدول الأولى بالرعاية، بمعنى أن تسري الأفضليات أو المزايا التي تمنحها الدولة لموردي أي دولة أخرى على باقي الدول الأعضاء، وأن تعامل الدولة جميع الموردين الأجانب للخدمات من الدول الأعضاء في الاتفاقية معاملة موحدة، وبالتالي فإنه لا يجوز التمييز بين موردي الخدمات من الدول الأطراف.

2- مبدأ الشفافية، بنشر المعلومات حول القوانين واللوائح الوطنية المتعلقة بالتجارة وتزويد الأعضاء بالمعلومات المطلوبة في هذا المجال.

ب- الالتزامات المحددة، وهي الالتزامات التي ترتب على تعهد الدولة العضو بتحرير بعض القطاعات والأنشطة المحددة، إذ تمنح الاتفاقية الدول الأعضاء الحق في الدخول إلى أسواق الخدمات الوطنية وفقاً لجدول الالتزامات المحددة لتلك الدول، فكل دولة عضو مطالبة بإعداد جدول للالتزامات بتحديد القطاعات الخدمية والأنشطة التي يفرض عليها مبدأ المعاملة الوطنية والنفاد إلى الأسواق، مع التحرير التدريجي للتجارة على أساس قوائم إيجابية تتحدد من خلال المفاوضات، لتسهيل المشاركة المتزايدة للدول النامية وإدماجها تدريجياً في السوق العالمية.

وقد ألحق بالاتفاق مجموعة من الملاحق منها ملحق الخدمات المالية لتحديد المفاهيم الخاصة بهذه الأنشطة بما يمنع الخلط بينها، إذ تمثل الخدمات المالية ركناً بالغ الأهمية، فهي تضم أعمال المصارف على تنوعها، وشركات التأمين المختلفة، وأنشطة أسواق المال، وشركات إدارة الأموال أو تجميع المدخرات، وبصفة عامة كل المعاملات المالية، لذلك تناولت الاتفاقية حقوق الأطراف في اتخاذ إجراءات وقائية لحماية المستثمرين وأصحاب الودائع وبوالص التأمين، إضافة إلى نصوص وأحكام تتعلق بمسائل أخرى مثل الاحتكار، والحق في الوجود التجاري والإقامة المؤقتة للأفراد.. إلخ بما يحقق سلامة النظام المالي واستقراره.

كيف تجري التجارة الدوليةفي الخدمات المالية؟

تجري التجارة الدولية في الخدمات المالية عبر قنوات رئيسية تتمثل في الآتي:

– توريد الخدمة عبد الحدود، وتشمل تدفقات الخدمات من أراضي دولة ما إلى أراضي دولة أخرى، ومنها الخدمات المصرفية التي تجري عبر وسائل الاتصالات أو بالبريد.

– الوجود التجاري، ويعني أن مورد الخدمة من دولة ما ينشئ وجوداً تجارياً له داخل أراضي دولة أخرى مستهلكة للخدمة، ومنها إقامة فرع لبنك أجنبي داخل البلاد.

ووفقاً لتقديرات منظمة التجارة العالية تتم أكثر من نصف التجارة العالمية في الخدمات تجري من خلال الوجود التجاري لموردي الخدمات في الأسواق.

– هذا إضافة إلى انتقال مستخدمي الخدمة من إقليم دولة إلى إقليم دولة أخرى، وانتقال الأشخاص الطبيعيين الذين ينتمون إلى دولة عضو لتوريد خدمة في إقليم دولة عضو أخرى (2).

وتشمل الخدمات المالية عدة بنوك من أهمها: قبول الودائع ومنح القروض سواء بالعملة المحلية أو الأجنبية- خدمات المدفوعات والتحويلات- التأجير والتأجير التحويلي- السمسرة والاستثمار- إدارة الأصول المالية ومنها إدارة محافظة الأوراق المالية وصناديق الاستثمار- خدمات المقاصة- خدمات المعلومات المالية ومعالجة البيانات الخاصة بها- التأمين وإعادة التأمين.

ويتضح من ذلك أن الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات قد شملت كل الخدمات المالية التقليدية للبنوك والأسواق المالية والتعاملات في الأوراق المالية الحديثة كما شملت جميع خدمات التأمين وإعادة التأمين.. إلخ. إلا أنه يلاحظ أن هذه الاتفاقية لا تسري على الخدمات المالية التي تجري على أساس غير تجاري في إطار ممارسة السلطة الحكومية.

****

 (1) د.أمينة أمين حلمي: دور المشاركة المصرية الأوربية في رفع كفاءة الخدمات المصري ص(12) مركز القاهرة للمعلومات.

(2) د.عادل عبدالله: النظام التجاري متعدد الأطراف، المعهد العربي للتخطيط- الكويت.

العدد 1105 - 01/5/2024