لعبة شيطنة الضحية

إن عملية قلب الضحية إلى قاتل والقاتل الفعلي إلى ضحية من الألاعيب التي استخدمت في التأثير النفسي ووسائل الدعاية المخابراتية، تهدف إلى تضليل الرأي العام وكسب أكبر قدر من التأييد الشعبي للعمل الجرمي بحق الخصم وإضفاء الشرعية على عزله والقضاء عليه بصفته خطراً يهدد المجتمع البشري والحضارة الإنسانية، ومن ضمن هذه الألاعيب التسويق الدعائي للإرهاب العالمي على أنه صناعة سوفييتية الذي استخدم للتغطية على المسوق الفعلي للإرهاب وهو نفس مصمم العملية أي مخططي الإرهاب المنظم الأمريكي الصهيوني، وحين سقطت اللعبة مع سقوط الاتحاد السوفييتي اقتضت الضرورة ملء هذا الفراغ عن طريق صناعة ضحية جديدة تناسب القلب المنهجي للصراع الدولي يضمن لدولة (العناية الإلهية) البقاء والهيمنة عن طريق حروب الحضارات التي تديرها، وقد جاء الوقت الذي سيسند فيه الدور لذلك المارد المطاطي الذي بدأ البريطانيون بنفخه في القاهرة قبل عدة عقود، الأداة في الحلف المقدس، الإسلام السياسي، العدو الجديد المهدد لوجود الحضارة الغربية لذلك لا بد من إخراج يبرر هذه الازدواجية ويصرف نظر الرأي العام عن دور حراس الإمبراطورية في الإخراج وهنا في كتاب (واشنطن والعالم – معضلة القوة العظمى ل بيير هاسنر وجوستان فاييس ترجمة قاسم مقداد صادر في دمشق عام 2008) نمازج عدة عن طرفي المعادلة المزدوجة، طرف التغطية المضللة للتملص من المسؤولية عن خراب العالم وطرف آخر مقابل هو حقيقة الشراكة والتحالف والتخطيط المسبق لصناعة هذا الخراب عن سابق إصرار وتصميم.

على الطرف الأول من النماذج المضللة (صامويل هانتنغتون) الذي وصفه المؤلفان بأنه تحول من داعية للتفوق الأمريكي إلى نبي لحرب الحضارات وهو الذي نقل عن (روبيرت كابيلان) تصوره عن عالم الغد الذي سيتكون من عصابات من الشبان التي لا يمكن السيطرة عليها، مستنداً إلى المتخصص الإسرائيلي (مارتن فان كريفلك) الذي يعتبر أن الدولة تحتضر وأن الحروب بين الدول ستتلاشى وأن مستقبل العنف يكمن في الصراعات ضعيفة الشدة التي تبدأ بالنهب لتنتهي بالمواجهات بين الأعراق، وتكنس هذه الصورة تاريخاً كاملاً من العلاقات الموثقة ليستقر في وعي المتلقي صورة عن عصابات نهب عرقية قائمة بذاتها وقادرة بقوة حضورها على الحلول محل الدول بتطورها الخاص مع كل العبء التاريخي الجامد الذي تنوء تحته، بينما يدحض الدكتور سمير أمين هذا التصور فالإسلام السياسي حسب تعبيره كان سيجد صعوبة أكبر بكثير في اجتياز حدود العربية السعودية وباكستان لولا دعم الولايات المتحدة المستمر القوي الحازم ويقول في مقطع آخر (الإسلام السياسي ليس نتيجة عفوية لتعلق الشعوب ذات العلاقة بالقناعات الدينية الأصلية، أن الإسلام السياسي هو من فعل الإمبريالية الكامل) (راجع مقالتي الدكتور سمير أمين الإسلام السياسي الوجه الآخر للرأسمالية المتوحشة 2007 والإسلام السياسي في خدمة الإمبريالية 2008).

نموذج تضليلي آخر مشابه هو تفسير (جون إيبو سيتو) للأصولية الإسلامية على أنها تعبير عن المجتمع المدني للبلدان ذات الغالبية الإسلامية، وما يحمله هذا التفسير الهزلي من استخفاف بمنجزات العقل البشري وعصر الأنوار والتقدم وما يحمله من استخفاف بالرأي العام أيضا هو من الناحية العملية محاولة دفاعية لتبرئة المدنية الغربية بنسختها اللبرالية المتوحشة في علاقتها التحالفية مع الأنظمة القروسطية التابعة في شبه الجزيرة العربية كما يبرر قلب الوقائع الذي أبداه كل من (رونالد آسموس وكينيت بولاك) نموذجاً تضليلياً ثالثاً يقول (أدى الفشل الرئيسي الذي أصاب الأنظمة العربية إلى نشوء أيديولوجيات وحركات ودول مارقة تشكل اليوم خطراً يهدد وجود الغرب) ويتحدث الخطاب عن ضرورة اعتماد استراتيجية حازمة قادرة على تغيير المنطقة نفسها تستثنى منها تلك الأنظمة المتخلفة، إذ يتركز المعنى على (تغيير طبيعة الأنظمة المعادية للغرب) أي لتحميل سورية وهي بلسان (القديس) الجديد للحلف المقدس جورج بوش الابن أحدى الدول المارقة المعنية مسؤولية ظهور التطرف والإرهاب وينقض ذلك القلب الفظ للوقائع، استراتيجية خاصة بسورية.

– وهنا أنتقل للطرف الآخر من المعادلة – لنموذج يعكس التخطيط المسبق، الحقيقة التي أكدتها الأحداث اللاحقة في تطابق شبه تام مع ما جاء فيه وهو نص توصية وجهها اثنان من صقور إدارة بوش الإبن (ريتشارد بيرل ودوغلاس فيث) موقعة باسمهما (لبنيامين نتنياهو) عام 1996 (وثيقة وإردة في الكتاب بعنوان المقبوس رقم 33) أختصر منها (سورية تتحدى إسرائيل فوق الأراضي اللبنانية وهناك مقاربة فعالة يمكن للأمريكيين التعاطف معها وهي أن تقوم إسرائيل بمبادرة استراتيجية على حدودها الشمالية من خلال مهاجمة حزب الله وسورية وإيران الذين يشكلون عناصر العدوان على لبنان من خلال وسائل، منها استخدام الوسائل التي تستخدمها سورية ضدها في لبنان وذلك باللجوء إلى أفعال فريدة لا تجعل الأراضي السورية في منأى عن هجمات تقوم بها قوات حليفة لإسرائيل من لبنان:

* ضرب أهداف سورية في كل من لبنان وسورية.

* جذب الانتباه إلى برنامج سورية حول أسلحة الدمار الشامل.

* يمكن لإسرائيل تغيير محيطها الاستراتيجي بالتعاون مع تركيا والأردن… إلخ، أليس ما حدث في سورية منذ 2011 على أرض الواقع صورة مطورة للمقبوس رقم 33؟ أليس الواقع يقول ماركس كفيلاً بالإجابة عن كل الترهات؟ ألم يستمر العدو المهدد لوجود الحضارة الغربية في أداء مهمـة الأداة في الحلف المقدس لمصلحة القوى المهيمنة على هذه الحضارة؟ لدى مطابقة بنود الاستراتيجية مع الواقع نرى أن ما يسمى قوى 14 آذار الخلية السعودية في لبنان كانت رأس الحربة الأولى لاستجرار الإرهابيين وإرسالهم إلى الداخل السوري وكان أول إرهابي غير سوري يشارك في عمل مسلح في الداخل السوري هو لبناني من عكار شارك في الهجوم على أوتوستراد بانياس بتاريخ 10/4/2011 ولقد زج الحلف المقدس بكل ثقله ومكوناته في سورية وكانت الحدود اللبنانية والتركية والأردنية ممراً لمئات الآلاف من الإرهابيين من 87 جنسية حسب تقرير أمريكي نشرته جريدة (النور) السورية بتاريخ 16 آذار 2014 تحدث عن 248 ألف إرهابي غير سوري دخلوا البلاد وقاتلوا إلى جانب المجموعات الإرهابية المحلية وبينهم رعايا من أوربا وأمريكا وقد تأمنت لهم كل أنواع التسهيلات ودفعت لهم الأموال وزوّدا بالسلاح وكانت تديرهم غرف العمليات التي تعج بالأجهزة الأمنية المتنوعة وتحدد لهم الأهداف وتقوم بتأمين الغطاء الناري لهم قوات من إسرائيل وتركيا فعلاً، وقد تكالب الحلف على حصار سورية وتدمير مخزونها من أسلحة الدمار الشامل وتسخير عشرات الأقنية الفضائية الغربية والعربية لإظهار الإرهابيين وكأنهم ثوار حرية وكرامة.

العدد 1105 - 01/5/2024