كيف نهزم«تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» (2)

 التطرف الطائفي في المجتمعات متعددة الطوائف في المشرق العربي موجود بالضرورة بحكم الهشاشة التاريخية التي منعت دمج هذه الطوائف ضمن صيغ المواطنة من جهة، وغياب التجربة الديمقراطية الحاكمة للمكونات على أساس التمثيل السياسي من جهة أخرى.

إن تحليل فاشية (تنظيم الدولة) يتبلور عن دراسة مجموعة من العناصر الحركية المختلفة، لكل منها استقلاليتها النسبية، تنعكس عن شروط ذاتية في الواقعين السياسي والاجتماعي للعراق وسورية، في فترات أزمة سياسية واجتماعية عميقة تكرست خلال الحقبة القومية في البلدين. وقد أدى وجودها في سياق عدم التوازن الإقليمي والدولي إلى تفاعلها في ظاهرة مادية هي صعود أيديولوجيا دينية من نمط الفاشية عبر جلب الماضي، وهو ماعبر عنه الكاتب حامد عبد الصمد بأن حراك الحاضر للتنظيمات الإسلامية المسلحة ما هو إلا تطبيقات، يجتهد أن تكون حَرفيّة، لمجريات الزمن الأول وسياسته: كيفية مواجهته للمختلف والآخر، وشكل السياسة المتبعة مع هذا (لآخر)، والتي أصبحت قواعد واضحة ومرجعيات ثابتة للإسلام السياسي بجماعاته المختلفة. يمكن لهذه الأيديولوجية أن تنتشر في شريحة وقاعدة اجتماعية هائلة في العراق وسورية، هي في الواقع خزّان بشري هائل لقوى يمكن أن تحمل هذا الفكر الفاشي وهي بشكل متزامن أيضاً قامت بجذب عشرات الآلاف مما يعرف بالمجاهدين الإسلاميين إلى المنطقة.

يؤمن (تنظيم الدولة) برؤية فقهية واضحة تُقسّم المجتمعات تقسيماً حاداً إلى ثنائية الأنا (المقدَّس) ضد الآخر المباح (الكافر). ويرتبط بهذه الثنائية توظيف إجرامي ذرائعي أو فاشية وظيفية غير أخلاقية. من هذا المنظور تسيطر على (تنظيم الدولة)، بنية وظيفية، هذه الرؤية الثنائية في معالجته للتنوع الاجتماعي والإثني والطائفي للمجتمعات التي يسيطر عليها. وقد حَوَّل هذا التنظيم هذه الوظيفية نفسها إلى المطلق الإلهي الأكبر الذي ينبغي على (المسلمون) أن يلتفوا حوله بمعناه السياسي أي الخلافة، ذلك أن دولة الخلافة هي امة المسلمين وأن البغدادي هو خليفتها.

إن تدمير (تنظيم الدولة) للنسيج الاجتماعي للمشرق، سيفتح الباب أمام الصورة الأكثر إرهاباً لحقبة الفاشية الجديدة (الفاشية الإسلامية)، عبر خلق توازن جديد لديكتاتوريات الدويلات أو الإمارات الإسلامية، مقابل ديكتاتوريات بقايا الدول الحالية المواجهة لها. لتستعر الميول العرقية؛ بحدود الدم فيما بينها، باستلاب الوعي الجمعي وأساطير التفوق والأمجاد الوهمية. إن على الفاشية الإسلامية بعد تحطيمها للبنية الاجتماعية الحالية للمجتمعين السوري والعراقي، وبنائها لمجتمع ديني متحجر قمعي، منظم بصرامة وفق آليات عنف تبريرية تجاه الآخر، الموسوم (بالردة، الإلحاد، الرافض، الكفر، الشرك…الخ)، أن يحول ديناميته العنفية نحو الخارج، في محاولة للاستيلاء على الجزيرة العربية ارض (الإلهام)، والأردن الملكية الضعيفة، ولبنان شبه الدولة، لتُستعبد شعوب الشرق باسم الإسلام، وتنشئ هيمنة إقليمية، أشد خطورة وحنكة من القاعدة، تحت سطوة التآكل النفسي والاقتصادي للمجتمعات المشرقية، وقد عبر عنها بطريقة ما فرانسيس فوكوياما، صاحب نظرية (نهاية التاريخ)، عن رأيه حول مسار الإسلام السياسي بأن حالة الإحباط والغضب لدى الشباب المسلم، إضافة إلى التردي الاقتصادي وفشل التنمية، سوف يزيد من قوة الإسلام السياسي الجهادي وحضوره في المنطقة، وهو ما يعني مشاكل أكبر في الفترة القادمة، واضطرابات في العالم الإسلامي، وكذلك وسط الجاليات المسلمة في الغرب.

إذاً كيف نهزم (تنظيم الدولة)؟. تبدأ هزيمة (تنظيم الدولة) من تحديد العوامل التي ساعدت على نشوئه في كل من سورية والعراق. وهنا لن نختبئ خلف الأكمة، إن استثنائية النظم السياسية التي حكمت هذين البلدين هي مسؤولة بشكل غير مباشر عن تسهيل تبني القاعدة الشعبية لأفكار هذا التنظيم، وهذه الاستثنائية قامت بالأساس على هشاشة البنية المجتمعية السورية والعراقية والتركيبة النمطية الدينية السطحية المهيأة لولادة حركات إسلامية تكفيرية حاضرة منذ بدايات القرن الماضي على الأقل، ليأتي أخيراً تغلغل المال السياسي-الديني لبعض الأنظمة العربية التي عملت تاريخياً على وأد جميع الحركات القومية والعلمانية واليسارية والديمقراطية في المنطقة، ثم دعمها الممنهج لحركات التطرف، وأخيراً استثمار اللاعب الأمريكي لكل هذه التناقضات لوضع يده على هذه المنطقة وإشعالها ما دامت له مصلحة بذلك.

ويفترض في هذا الظرف الخطير وجود إطار عام لهزيمة (تنظيم الدولة) يتمثل في أن تشكل النخب السورية والمعارضة الوطنية جبهة اجتماعية شعبية سياسية واسعة، تضم كل الأطراف التي تؤمن بضرورة محاربة الفاشية الوظيفية لتنظيم الدولة، والتعاون الوثيق مع الجيش السوري والنظام المؤسساتي القائم، مع ضرورة الضغط على النظام الحالي من أجل تغيير نهجه وطبيعته وآلياته السياسية الاستحواذية، بالحوار وبالعملية السياسية الديمقراطية. كما يجب التركيز على بناء استراتيجية تعليمية ثقافية تكرس وعياً اجتماعياً جديداً، بعيد عن منظومة الشعارات والأيديولوجيات الزائفة، تركز على ثقافة المواطنة والعدالة الاجتماعية والإيمان بقدسية المواطن، وبعلمانية الدولة التي ينتمي إليها. والحفاظ على محورية الجيش السوري ضامناً حقيقياً في ضبط التحولات السياسية القادمة وفي مواجهة الأطراف الإقليمية التي تدعم وتستثمر الفاشية الوظيفية. إن مجموع هذه الشروط يمكن من حيث المبدأ أن يشكل قاعدة لهزيمة (تنظيم الدولة) وغيرها من الحركات الجهادية والتكفيرية المشابهة له.

العدد 1105 - 01/5/2024