المعري ــ الخيام ــ طاغور… توافق وتعارض

لا شكّ أن الحياة، بصفتها نقيضاً للموت قد شغلت بال الإنسان وحمّلته ما لا يحتمل، فوقف بداية من الموت موقف الحائر، لماذا وجد، ومن أوجده، ولماذا يموت؟ فكانت تساؤلاته تصطدم بضبابية رمادية من الحيرة والدهشة، فعرف منذ أيامه الأولى الجوع، والخوف، إلى أن كانت حيرتُه العظمى عندما حصل أوّل موتٍ أمامه، ليقف مذهولاً مما يرى، فلم يدر ما يصنع أمام تلك المعضلة، فرفض الموت، وجرّب أن يتحداه، حمل الجثة دون أن يدري بالموت، وسار بها دون أن يدري ما يفعل، تماما كالقردة الأم التي مات وليدها الحياة، تظل حاملة إياه حتى يذوي، وكذلك الفيلة التي تستأنس بعظام من مات من أفرادها، فتبدي حنوّاً ظاهراً، وهذا يدلنا على أنّ الحيوان عرف الموت قبل الإنسان وتعامل معه بالغريزة، ليهتدي الإنسان أخيراً من خلال مراقبة للطبيعة ومخلوقاتها إلى طريقة يتخلص منها من الجثة بدفنها في التراب، لتستمرّ حيرته من الحياة والممات.

انطلاقاً من هنا ما موقف شعرائنا الثلاثة (المعري – الخيام – طاغور) من الحياة والموت؟ وهل توافقوا أم تباينت مواقفهم؟

في حقيقة الأمر نجد أن النظرة متباينة، فإن بدا أن جميعهم لا يكرهون الحياة، لكن نظرتهم إليها تختلف من شاعر لآخر، سواء من حيث اقتناص فرص اللذة والسعادة بها (الخيام)، أو النظر إليها بعين الجمال والمحبة(طاغور)، أو التمسّك بها من أجل هدف سام بكشف أسرارها والوقوف منها موقف الحائر المتشكك (أبو العلاء).

فالمعري ينطلق من موقفين،موقف مَنْ يرجو الحياة، فيتمنى أن يرجئ الله أجله، إذا جاء الموت طالباً روحه:

نَرْجُو الحياةَ فإنَّ همّتْ هَوَاجِسُـنا

بالخَيْرِ،قالَ: رَجَاءُ النفسِ إرجاءَ

وما نُفيقُ من السُّـكْرِ المحيطِ بِنـا

إلاّ إذا قِـيلَ هذا الموتُ قَدْ جاءَ

وموقف مَنْ يقوم على التمسك بالحياة خوف الموت، كغريزة تقوم على حبّ البقاء بغض النظر عن هناء المرء في حياته أم تعاسته، وقد أشار المعري لذلك في الأبيات التالية، موظّفا حرص الإنسان والحيوان على حياتهما، ولو كلّفهما ما يسعيان له تعباً وإرهاقاً، ضارباً مثلاً ما يلقى النحل من شقاء لجني طعام أطفاله وملكته، وطير (الكِدري) الذي يطير مسير خمسة أيام ليشرب ولو ماء عكراً، وضرب مثلاً النبي نوح الذي دفعه خوف الردى وفقدان الحياة إلى عمل السفن للنجاة، يقول:

فما رغبَتْ في الموتِ كِدرٌ مَسِيرُها

إلى الوردِ خَمسٌ ثُم يشـربْن من أَجـنِ

وخوف الردى آوى إلى الكهف أهله

وكلّـف نُـوحاً وابْـنَه عَـمَلَ السُّـفْنِ

وما استَـعْذَبَتهُ روح موسـى وآدمُ

وقَـدْ وُعِـدا مـن بعـده جـنةَ عَـدنِ

وكثيراً ما ذمّ المعرّي أناساً يرغبون في الحياة، ويتمسكون بها، وهم في الوقت ذاته من عيّابها، ومنتقديها، فيعجب لهذا التناقض في مواقفهم:

ومِنَ العَجَائِبِ أنّ كلاًّ راغبٌ

فِي أمِّ دَفْـرٍ وَهْوَ مِنْ عُيَّابِها

والمعري لا يرى في الحياة جدوى، فيذمّها، ويصفها صفاتٍ مقذعةً، وتراه يطلق عليها منذ نعومة أظفاره (أم دَفْر) أي النتانة. فيطلب منها أن ترحل عن الناس إذ يقول:

يا أمّ دفر لـو رحلتِ عـن الورى

كسـروا ولو من آلِ ضبة كـوزا

إنّي ذممتك فاشـهري أو أشرعي

لا أرهـب المعمـود والمركوزا

فالدنيا إغواء للشباب، ومضيعة للوقت، وطريق للمفاسد، فلا يسلم من شرّها من إلا من تحصّن بالدين الصحيح عن تعقّل وروية، لأنها تسير بالمرء بلا مراسٍ توقفها:

فَيَـا أمّ دَفْـرٍ لا سلِـمتِ غَـويّـةً

وأيُّ أذاةٍ مـا عَصَبْتِ بـراسـي؟

تسيْرُ بِـنا هذي الليـالـي، كأنّها

سـفائنُ بَحـرٍ مـا لهُنّ مـراسـي

أمّا عمـر الخيام، فموقفه من الحياة يختلف، فهي بالنسبة لديه فرصة يجب اقتناصها، والتمتع بكل دقيقة وثانية فيها، وهذه المتعة يجدها في الخمرة، والتساقي بها، فيلتقي مع بعض شعراء الجاهلية وعلى رأسهم الشاعر طرفة بن العبد حيث يقول:

فإن تبغني في حلقـةِ القومِ تلقني وإنْ تلتمسْني في الحوانيت تصطدِ

وما زالَتشرابي الخـمورَ ولذّتي

وبيـعي وإنفاقي طريفي ومتلـدي

ولا يلبث أن يطلق فلسفته الوجودية في الحياة، مؤكّداً أهمية اغتنام فرصها والعبّ من لذائذها، فكان له مذهبه القائم على أمور ثلاثة: شرب الخمر، مقارعة الخصوم، والمرأة.

وتلك الفلسفة الوجودية لدى طرفة بن العبد ستكون فلسفة الخيّام في حياته، إذا استثنينا القتال والفروسية.

يقول عمر الخيام داعماً فلسفة طرفة في رباعيته تلك:

لا عشـتُ إلاّ بالغـواني مُغْـرَمـا

وعـلى يـدي تـبرُ الْـمُدامِ الذائـبِ

قـالـوا سـيقبلُ مِـنكَ ربُّـكَ تـوبـةً

لا الله قـابـلُها ولا أنـا تائِـبُ

هذا الخيام وذا مذهبه في الحياة، فتراه يحث الناس على حب الحياة من خلال رشفةِ كأسٍ، وشربةِ طِلا، فاسمعه يطلب من المرائين أن يشربوا بدل التساؤل عما بعد الموت، وبعد ذلك فليذهبوا حيثما شاؤوا:

يـا باقيـاً رهـنَ الريـاءِ ورائِحـاً

لِقَصـيرِ عَيْـشِكَ فـي عـناءٍ مُتْعِـبِ

أتـقولُ أيـنَ تـروحُ مـن بـعدِ الردى

هـاتِ المُـدامَ وأيْـنَ ما شِـئتَ اذهـبِ

ولقد أشار المعري في أكثر من قصيدة إلى قصور الإنسان عن معرفة ماهية الأرواح والعمر والحياة والموت، فيقول كيف لنا أن نعرف عنها بعد مماتنا، ونحن لا نعرف عنها شيئا في حياتنا:

أرواحنا معنا وليس لنـا بـها

عِـلمٌ فكيف إذا حَوَتْـها الأقبرُ

وربما قرأ الخيام هذا المعنى فأعجب به فصاغ على معناه فأجاد، إذ يربط معرفته بسر الحياة، لكي يعرف أكثر سر الممات، ولكن دوام الغموض مع الحياة،سيستمر بعد الموت:

سرّ الحيـاة لـو أنّـه يبـدو لـنا

لبـدا لـنا سـرّ الممات الْمُـبهم

لَم تعلمـنّ وأنت حيٌّ سـرَّهـا

فـغدا إذا مـا مُـتّ ماذا تعـلمُ

وفي قوله السابق يبرز إنكار الخيام للآخرة والقيامة والجنة مثله مثل المعري الذي شكك بها، فهو يقول:

أنهيتَ عنْ قَتْل النفوسِ تَعَمُّداً

وَبَعَثْتَ أَنْتَ لِقَبْضَها مَلَكَيْنِ؟

وَزَعَمْتَأَنَّلَنَا مَعَاداً ثانياً

ما كانَ أَغْناها عَنِ الحَالَيْنِ

فالخيام يتوافق مع المعري بأن العقل هو من يسوس الإنسان، والعاقل من يملك ذرّة عقل فيعرف خلاصه، وينتبه لعمره القصير، فلا يضيّعُ منه لحظة:

مَـنْ نـال ذرّة عقـل عـاد منتبـهاً

فَـلمْ يُـضِعْ من ثَمِيـنِ العمرِ لحظَـتَهُ

إمّـا سـعى لرضـاءِ الله مجتـهداً

أو عـبّ كأس الطِّـلا واختار راحـته

ولم يخف عن المعري ما للخمرة من تأثير على وعي الإنسان، ودورها في دفن أحزانه، وإسلائه ممّا يعانيه من همٍّ وقلق، فتمنّى لو أن الخمرة حلالٌ، فيستقيها لعلّها تذهله عما يعاني فيقول:

تمنّيتُ أنّ الخـمر حلّتْ لنشـوةٍ

تُجهّلُني كيف استقرّت بي الحالُ

وكأني بالمعري يتوق لشربها حيث يقول متندّراً:

أيأتـي نبيٌّ يجعلُ الخمرَ حِلّةً

فتحمِلُ شيئاً من همومي وأحزاني

وهذا ما ذهب إليه الخيّام أيضاً، طالباً من الله أن يفتح له باب الرزق، ويديم عليه نشوة الخمر، كي تنسيه ما يعاني من هموم وآلام:

ربّي افتـح لي بابَ رزق وأرسـلْ

لـي قـوتي مـن دونِ الأنـامِ

وأدمْ نشـوةَ الطِّـلا لي حتّـى

تُـذهلَـني مـا عِـشت مـن آلامي

فالحياة عند الخيام ربيع وجمال، وعلى الإنسان أن ينظر إلى الحياة ضاحكاً مودعاً همومه حاسياً الخمرة:

بـدا الصـبحُ وانشـقَّ جيـبُ الظـلامْ

فقُـمْ وَدَعِ الهـمّ واحـسُ الْمُـدامْ

فـكـمْ مـن صـباحٍ سـيبدو لـنا

ونَحـنُ نيـامٌ بِـبـطنِ الرُّغـامْ

ويخالف المعري الذي يحث على ترك الدنيا للخلاص من فساد هذا العصر، فيدعو الخيام للانفتاح على الحياة واقتناص لذائذها، فالإنسان كالزهرة يزهو زمناً ثم يذوي ويندثر ويعود تراباً هباء:

أما تـرى الأزهار فيـها عبثت يـدُ الصِّـبا

ومـن جمالها غـدا البلبلُ يشدو طـربـا

فـبادرِ الـزهـرَ ودعْ عنكَ الأسـى والكُرَبا

فهذه الأزهـار كم زهـتْ وكـم عادت هبا

يتضح لنا أنّ جمال الطبيعة بربيعها وأزهارها وخضرتها لم يلفت نظر المعري وهو الأعمى الذي لا يرى، بينما الخيام وطاغور أحسّا بالجمال وعايشاه بكل حواسهما فتأثرا به، لهذا سار طاغور على درب الخيام إذا تجاوزنا مسألة الخمرة عند الأخير التي ركّز عليها الخيام، فطاغور يرى أن الحياة جديرة بأن تُعاش، وأن يُسعى في مناكبها، فيرجو استغلال كل ساعة من العمر، وعدم تضييع شيء منه، لهذا زيّن طاغور الحياة وجعلها جميلة ورائعة، بل إنّه قدّم الهند للناس على أنها جنة الله في الأرض. وبالطبع فهو يبالغ على عكس المعري الذي صور الواقع كما هو يقول طاغور:

إنّ نهر الحياة نفسه الذي ينساب في عروقي ليلاً ونهاراً،

هو الذي ينساب في الكون ويرقص على إيقاع موزون.

إنّها تلك الحياة التي يهدهدها المد والجزر في مهد بحر الولادة والموت..

وزاد المعري إغـراقاً في التشاؤم من الحياة والناس والوجود، أن رأى في فقده البصر نعمة أن حرم من رؤية هذا الوجود الفاسد وناسه، فأقسم أن لا شيء فيه يأسى له المرءُ قال:

قالوا: العمى منظـرٌ كـريـه

قلت: بـفقدي لكـم يـهونُ

واللهِ ما فـي الوجـود شيءٌ

تأسـى علـى فـقده العـيون

بينما طاغور قابل الحياة بالفرح وتغنى بالجمال، وكان التفاؤل والأمل وحب الحياة طابعه الغالب، فراح يطلب من الإنسان التشبث بالأمل مهما كان بسيطاً، فمن يبكي لفقد ضوء الشمس، فسيفقد النجوم أيضاً.

فهو يقول:

(إذا كنت تريق الدموع لفقد الشمس،

فسوف تفقد النجوم كذلك)

ويكمل طالباً من الإنسان أن يعيش الحياة فهي الجميلة الرائعة كأزهار الصيف، بينما الموت عابس متجهّم كأوراق الخريف:

لتكنِ الحياة جميلةً كأزهار الصيف.

والموت كأوراق الخريف

أكتفي بهذا حول توافق وتعارض المعري والخيام وطاغور في الموقف من الحياة، آملاً أن يتبعه إطلالة على موقفهم من الموت.

العدد 1104 - 24/4/2024