مسخ جديد يولد في عالم الأدب

في الربع الأول من القرن المنصرم أطلق حافظ إبراهيم نداء استغاثة عبر قصيدته (اللغة العربية تنعي نفسها) داعياً فيه إلى ايقاف تدهور لغة الضاد قبل أن تكون النتيجة (ممات لعمري لم يقس بممات). وكان ما أثار حفيظة شاعر النيل في تلك الفترة هو اللغة التي بدأت تظهر في الصحف والمجلات وكانت تكتفي بالنزر اليسير من كنوز المعجم العربي، ولم تكن تتطلب تمرّساً بفنون الأدب، بل كانت تؤسس للغة جديدة ستسود عالم الإعلام المكتوب، ولم تكن تلك الفترة قد شهدت بعد ظهور الإعلام المرئي أو المسموع، الذي أضاف بعداً جديداً لصراع اللغة العربية من أجل البقاء. فمذ حلت اللغة العربية مكان اللغة السريانية في بلاد الشام حصل فصل بين اللغتين العامية والفصحى، فأصبحت الأولى هي المسموعة والثانية هي المقروءة، وظل الحال كذلك حتى ظهر الراديو، وبدأت اللغة الفصحى تغزو مسامع الناس عبر نشرات الأخبار والبرامج الإذاعية. وقد استمر هذا الأمر مع ظهور التلفزيون الذي كان سلاحاً ذا حدين، فهو من جهة صرف الناس عن القراءة والأدب، ومن جهة أخرى زاد كمية اللغة الفصحى التي تصب في آذان الناس، عبر الأفلام الوثائقية والمسلسلات التاريخية والرعيل الأول من المسلسلات المدبلجة، وظل الحال كذلك حتى أطل القرن الحادي والعشرون حاملاً معه وسائل الاتصال الحديثة التي بدأت تستخدم اللغة العامية بوفرة، وعند ذلك بدأت تلك اللغة تصبح مقروءة من خلال الرسائل القصيرة والبريد الإلكتروني، ومن ثم استغني عن الحروف العربية، وحل محلها أحرف لاتينية لتلائم جميع وسائل الاتصال، ولاحقاً ظهرت مواقع التواصل الاجتماعي التي ستشكل منعطفاً خطيراً في صراع الحياة أو الموت الذي تخوضه اللغة العربية، فتلك المواقع تستحوذ على النصيب الأكبر من وقت الشباب العربي واهتماماته، ونظراً لمحاولتها محاكاة المجتمع الحقيقي، فقد فرضت الكتابة باللغة العامية وسيلة للتواصل، وشيئاً فشيئاً أصبح استخدام الفصحى نوعاً من الترف والفذلكة غير الضروريين، وبالتالي أصبح ما يقرؤه المرء من العامية أكثر من ذاك الذي يقرؤه بالفصحى، وما زاد الأمر ضغثاً على إبالة الأزمة التي عصفت بسورية، وأودت بحياة الكثيرين ودمرت حياة آخرين، فبدأ الشباب يدبجون القصائد وينشرون خواطرهم حول ما يحصل في البلاد، ويكتبون قصصاً ومقالات تتعلق برؤيتهم للأزمة وكيفية الخروج منها، وهذا الأمر ينذر بولادة أدب عامي، إن تُرك يجول ويصول ويسير حسب العرض والطلب، فإنه سينافس الأدب المكتوب باللغة العربية الفصحى منافسة شرسة، وقد يطيح به بعد جيل أو جيلين، وليس بعيداً ذلك الزمن الذي سنرى فيه كتباً بالعامية قد أبصرت النور وعندئذ سيصبح الوضع كارثياً وسيصبح العلاج أشد عسراً، خاصة أن هناك منافساً آخر للغة العربية ألا وهو اللغة الإنكليزية التي يتباهى الشباب بإتقانها والتمرس بها واستخدامها في الحياة اليومية قراءة وكتابة وسماعاً، وهنا ليس بمقدورنا سوى التساؤل: هل من وسيلة لمصالحة اللغة العربية مع أبنائها غير جعل مادة اللغة العربية من المواد التي تودي بمستقبل الطالب في حال رسب بها؟ ألا نحتاج إلى مادة مطالعة في مدارسنا تحبّب الطالب بالقراءة دون أن تجبره على ذلك تحت طائلة الرسوب؟ أم أننا سنظل ندرّس قصيدة حافظ إبراهيم في مدارسنا دون أن نحرك ساكناً.

العدد 1105 - 01/5/2024