يتسببون بالمجاعت!….«مونسانتو» والتحكم بالزراعة والغذاء

 يرتجف صوت المزارع الأمريكي..ويقول لمعدّي البرنامج: لقد استسلمت، لم أحتمل النفقات الباهظة لمتابعة التقاضي أمام القضاء الأمريكي الذي منح الشركة حق الهيمنة على زراعتنا وغذائنا، وستجدني غداً في مركز الشركة أنتظر استلام البذار….يقول مزارع آخر: قررت استخدام البذار الخاصة بي، وقمت بتخزينه في مزرعتي، لكن مراقبي الشركة المنتشرين في أنحاء الولايات المتحدة، وبتفويض من القوانين الأمريكية، دخلوا إلى المزرعة وصادروا البذار، ولا بديل أمامي سوى استخدام بذار الشركة. أما والتر ديك، فيستعيد ما حصل لأحد أصدقائه عندما تحدى الشركة واستخدم بذاره الخاص في زراعة الصويا. بقي المحصول مخزناً في المزرعة، فما من مشترٍ يتجرأ على تحدي قرارات الشركة.

في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وبعد إثارة الصحافة الأمريكية لمسألة علف الأبقار المعالج هرمونياً، ذكرت مقدمة البرامج الشهيرة (أوبرا وينفري) في إحدى حلقات برامجها، بأنها ستستغني عن شريحة لحم البقر بعد الآن..لكنها لم تدرك أن تصريحها هذا سيرتب عليها المثول أمام القضاء الأمريكي، بادّعاء من الشركة، بتهمة الإساءة إلى سمعتها مما أدى إلى انخفاض مبيعات لحم البقر في الولايات المتحدة، وقد تطلب الأمر من أوبرا أربع سنوات.. ومليون دولار أتعاب للمحامين، لتتبين المحكمة براءتها من هذه التهمة(1).

لمحة تاريخية

تأسّست الشركة عام 1901 شركةً لتصنيع المواد الكيماوية، وكانت إحدى الشركات التي أجرت أبحاثاً لتصنيع القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية، كما أدارت معملاً نووياً للحكومة الأمريكية حتى أواخر الثمانينات.

لعل أبرز الأنشطة التي سلّطت الضوء على الشركة في الماضي كانت مساهمتها في إنتاج المادة الكيماويةAgent Orange--، التي استخدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب على فييتنام بهدف ضرب المحاصيل الزراعية، وثبت لاحقاً أن قوة المادة التي أنتجتها مونسانتو تحديداً كانت تفوق قوة المادة نفسها التي أنتجتها الشركات الأخرى بـ 1000 مرة، أي أن تركيز المواد السامة (الديوكسين) فيها كان أعلى.

هذه المادةAgent Orange--عرّضت نحو 3 ملايين شخص في فييتنام للتلوث بمادة الديوكسين، مما أدّى لتشوهات خلقية لدى ما يقارب الـ 500000 طفل. في عام 1978 تعرضت الشركة لدعوى قضائية أقامتها ضدها مجموعة من المتقاعدين العسكريين الأمريكيين الذين شاركوا في الحرب ضد فييتنام بسبب تعرضهم لهذه المادة، فأصابتهم أمراض متعددة، انتهت بتقديم تسوية مالية لهم. في عام 2004 قام مجموعة من المحامين الأمريكان برفع قضية ضد الشركة في المحاكم الأمريكية، ووجهوا لها تهمة خرق القانون الدولي وارتكابها لجرائم حرب، إلا أن الدعوى أسقطت على اعتبار أن الشركة كانت معينة من قبل الحكومة الأمريكية لصناعة هذه المادة.

وتورطت الشركة أيضاً لمدة 50 عاماً في صناعة المواد الكيماوية المعروفة بالـPCBs، وهي زيوت تبريد كانت تستخدم في العديد من الأجهزة الالكترونية، إلى أن جرى حظرها عام 1979 بعد أن ثبت خطورة أثرها على البيئة والإنسان.

 ملفات الشركة حول عملياتها في تصنيع هذه المواد بقيت سرية إلى عام 2001 عندما تقدّم 20000 مواطن أمريكي، من بلدة آنستن في ولاية ألاباما الأمريكية حيث كانت الشركة تشغّل مصنعاً لصناعة هذه المادة، برفع دعوى قضائية ضد الشركة نتيجة الأمراض التي أصيبوا بها والتشوهات الخلقية التي لحقت بأطفالهم. عندما جُلبت ملفات الشركة من قبل المحكمة تبيّن أن الدراسات التي أجرتها الشركة داخلياً تؤكد الآثار الخطيرة للمواد التي تنتجها، وأنه تم الإقرار داخلياً (بتفشي المشكلة في كل من أمريكا وكندا وأجزاء من أوربا)، إلا أن رد المسؤولين في مونسانتو على هذه النتائج كان (لن نقبل بخسارة دولار واحد)، واستمروا في إنتاجهم لها.

إنها شركة مونسانتو العملاقة.. المسيطرة على تقنيات الزراعة الحديثة، والهندسة الجينية الزراعية في العالم.. ذات الأذرع الأخطبوطية الممتدة حتى إلى حقول إفريقيا.. وسواحل الفلبين.! ..إن أبحاث الهندسة الجينية الغذائية وتطبيقاتها العملية، محكومة بسيطرة مجموعة من الشركات الاحتكارية الكبرى وعلى رأسها شركة مونسانتو الأمريكية، التي كانت المتهم الأول في زيادة معدلات الهرمونات الجنسية ومشتقاتها في أجسام مستهلكي منتجاتها الغذائية، والذي كان له الكثير من العواقب الوخيمة على أولئك المستهلكين.

إن الآليات المستخدمة في شركة مونسانتو وشركائها تقف على النقيض من جوهر آلية الاصطفاء الطبيعي، إذ تعمد إلى إدماج نموذج مورثي جديد في الحمض النووي داخل نواة الخلية النباتية أي أنها تضيف أو تحذف مورثة من داخل الجينات الموجودة سابقاً في الخلية، لتمنح هذه الخلية صفات جديدة من خلال تغيير شيفرة الأوامر التي يمثلها الحمض النووي في النواة، الذي يقود عملية النشاط الخلوي لبناء الخلايا الجديدة التي تشكل في نهاية الأمر النسج المختلفة المكونة للكائن النباتي. إن هذه المورثات الجديدة يمكن أن تكون مأخوذة من حشرة أو سمكة أو حتى من الإنسان، وتوضع ضمن الخريطة المورثية للنبات الذي يراد له أن يعدل وراثياً بحيث تصبح هذه المورثات دليلاً جديداً لإنتاج مجموعة من المواد الغذائية الحاوية على بروتينات وشحوم وسكريات لم تكن موجودة سابقاً في بنية هذا النبات والتي ستأخذ طريقها إلى جسم الإنسان(2).

في عام 1997 صرح (روبرت شابيرو) رئيس شركة مونسانتو: (أصبحنا جاهزين لاجتياح العالم) ، مشيراً إلى توصل الشركة إلى تكوين مخزون كبير من (لقاحات) التعديل الجيني للبذور الزراعية. ولإحكام مزيد من سيطرتها على هذا القطاع عمدت (مونسانتو) إلى شراء عدد من كبريات شركات إنتاج البذور الأمريكية، مما جعلها تسيطر بصورة احتكارية شبه مطلقة على أهم ثلاث زراعات أمريكية: القطن، والصويا، والذرة، إضافة إلى عدد كبير من الزراعات الأخرى. كما سعت إلى إجبار زبائنها على توقيع عقود تلزمهم بعدم استخدام بذورها المعدلة جينياً لأكثر من موسم زراعي واحد، وبعدم استخدام مبيدات أو تقنيات زراعية أخرى تحت طائلة الملاحقة القضائية ودفع غرامات تعويض باهظة، وعمدت (مونسانتو) بعد ذلك إلى إلزام زبائنها بالاعتراف لها بحق القيام بدوريات تفتيش وتحرٍّ على حقولهم وصوامعهم للتأكد من حسن التزامهم بنصوص تلك العقود التي تعدّ الركيزة الأساسية في أحلام (مونسانتو) بالسيطرة على لقمة عيش العالم، حسب تعبير (روبرت شابيرو)(3).

 تتمتع مونسانتو بدعم غير محدود من الحكومات الأمريكية والشركات الكبرى التي تستثمر في المجال الزراعي، إذ ستمكن تقنياتها الجينية من احتكار إنتاج الغذاء على المستوى العالمي. فهي تمضي متسلحة بهذا الدعم رغم الاحتجاج والرفض الذي تواجهه في كل مكان، وتستثمر مونسانتو حالياً أكثر من مئة مليون أيكر (الأيكر نحو أربعة آلاف متر مربع) مزروعة بمحاصيل ومنتجات زراعية معالجة جينياً في مختلف بلدان العالم، وتستخدم الولايات المتحدة نفوذها في منظمة التجارة العالمية لاستصدار قرار بالموافقة على تسويق المنتجات المعدلة جينياً، وخفض التعريفات الجمركية عليها أو إلغائها، أما مطالبات الدول النامية من خلال مباحثات جولة (الدوحة) التي انهارت أكثر من مرة، والهادفة إلى إلغاء دعم الحكومة الأمريكية لمزارعيها، فهي لا تجد آذاناً مصغية لدى الإدارة الأمريكية. إن المزارعين في البلدان النامية يضطرون إلى بيع محاصيلهم الزراعية بأبخس الأسعار، بسبب منافسة المحاصيل الأمريكية المدعومة من الحكومة الأمريكية، ثم شراء المنتجات المصنعة والواردة من الدول الصناعية بأسعار مرتفعة، ونذكر هنا المثال المكسيكي الشائع في أن الفلاحين في المكسيك يحتاجون إلى بيع أربعة أطنان من الكاكاو الخام للتمكن من شراء دراجة هوائية واحدة من المصنع المكسيكي ذي الرأسمال الأمريكي.

تواجه تقنيات شركة مونسانتو، ومحاولاتها للسيطرة على الغذاء العالمي معارضة شديدة من الشعوب الأوربية والدول النامية، ففي بريطانيا تجري عمليات هجوم منظمة على الحقول التابعة للشركة، أما في فرنسا فأصبح عدد من أعضاء اتحاد المزارعين الفرنسي أبطالاً شعبيين بعد أن أصدرت المحاكم في حقهم أحكاماً بالسجن لقيامهم بتدمير محاصيل منتجة جينياً. إضافة إلى تقنيات الهندسة الجينية، تسيطر مونسانتو على براءات الاختراع لأنواع عديدة من البذار والمبيدات والسماد الملائم لزراعة المحاصيل الغذائية في مناخات العالم المختلفة، لكنها ترفض إنتاج الدول النامية لهذه المواد، وتتمسك بحقها وحدها بإنتاجها.

في مؤتمر بيوفجن الإسكندرية عام ،2008 ارتفع صوت العالِم السويسري ريتشارد أرنست، الحائز على جائزة (نوبل) للكيمياء، متهماً العولمة وشركاتها العملاقة، وحمّلها مسؤولية الأزمة الاقتصادية العالمية وما يرافقها من جوع واضطرابات، وأكّد العالم الكبير أن العلم المعاصر تقوده القوى الكبرى في السوق، فيصل إلى الأغنياء متجاوزاً الفقراء، وأوضح أن مخزون أفريقيا الغذائي يمكن أن يتضاعف باستعمال المبيدات والمُخصّبات الزراعية والبذور الجيدة، لكن فقر مزارعي القارة السمراء يحول دون وصولهم إلى تلك المواد الأساسية التي تتحكم بها شركات عالمية كبرى كشركة مونسانتو (4).

ورغم الدلائل الأخرى التي تؤكد سيطرة الشركات الاحتكارية الكبرى على الاقتصاد العالمي، وتسببها بالمزيد من المجاعات في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فهناك من يتوهم بعدالة التجارة العالمية في ظل عولمة اقتصادية تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها، أو في ظل القوانين التي تضعها هذه المنظمة العالمية أو تلك!

******

الهوامش

1 – البرنامج الخاص عن شركة مونسانتو في قناة دبي.

2 – راجع د. مصعب عزاوي، على موقعه الشخصي.

3 – راجع الموقع الإلكتروني لصحيفة الأهرام.

4 – راجع صحيفة الحياة بتاريخ 22 /4/ 2008. 

5- راجع موقع راديكال.

العدد 1107 - 22/5/2024