عن تقوية الدولار وقتل الليرة السورية.. تبريرات خائفة لسلوكيات غامضة مخيفة

 في تحليلنا للمقابلة التي أجراها مؤخراً حاكم مصرف سورية المركزي الدكتور أديب ميالة، لاحظنا أنه صرح بما يحمل في جزء منه حقيقة عامة، أما الجزء الآخر، فظهرت محاولته تبرير ما يحصل وفق وقائع عمومية بعيدة عن الزمان والمكان. فكلامه عن علاقة سعر الصرف بقوة الاقتصاد صحيح، ولكن الأحداث البدائية لعبت لعبتها، والأحداث الطارئة الأخيرة كانت لا تزيد شيئاً يُذكر من ناحية القوة الاقتصادية، أو زيادة الدمار والنهب وتهريب العملة.

وعندما تكلم عن دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وتصريحات أعضاء منهما عن انعدام الاحتياطات السورية، فقد تكلم عن حرب واجهها بلدنا من سنوات قبل الأزمة، عبر هاتين المؤسستين وعبر فريق اقتصادي ضم آلاف الكوادر كان هو جزءاً من تركيبته، وما زال مئات منهم يستلمون مراكز حساسة في الإدارتين الاقتصادية والمالية، ويمارسون السياسات نفسها المتماهية مع ما أرادته هاتان المؤسستان في اتباع أسلوب انقلابي اقتصادي يهزّ ويحطّم البنى الاجتماعية والاقتصادية، ويكون مدخلاً لتدمير شامل يقطع الطريق على التنمية المستمرة المستقرة المتوازنة، لتصبح بلدنا رهناً لقرارات هذه المؤسسات ومن يديرها من قوى استعمارية. ولكن تسعير الحرب الاقتصادية كان في الفترة الأخيرة مترافقاً مع كل انتصار تحققه المؤسسة العسكرية بدءاً من تدمر إلى حلب وما بعدها.

 إن الارتفاع الأخير لسعر الدولار خلال أيام معدودة وبقفزات مخيفة (بحدود 200 ليرة وما فوق) خلال أيام، علماً ان الوضع السياسي كان لصالح الدولة السورية، مع تخبّط القوى الأخرى، وفي الوضع الميداني تفوق واضح للمؤسسة العسكرية واستعادة مناطق، وما استقر عليه الدولار هو نتيجة غير منطقية ولا تتسق مع الوضع النفسي وأمور البلد بشكل عام. وبعد هذه القفزات عمل المركزي على تثبيته عند 620 ليرة سورية، وفرض على مراكز التحويل ومراكز الصرافة شراء كميات محددة (مليون دولار لشركات الصيرفة و100 ألف دولار لمكاتب التحويل)، ثم بدأ التدخل مع حملة إعلامية تواكب التغيرات الاقتصادية- السياسية، فهبط الدولار ووصل في بعض المناطق إلى حدود 310 ليرات، مترافقاً مع خوف كبير لدى المكتنزين وتسارع للبيع، وامتناع منافذ (السوداء) عن الشراء، في جو أعاد الثقة للمواطن والتفاؤل العام، فكلنا نعلم ما لسعر الصرف من تأثير على الثقة العامة للمواطنين، ولكن المركزي، بدلاً من الاستنفار التام واتخاذ الإجراءات المتلاحقة المثبتة للهبوط والمستثمِرة للحالة النفسية، كان يسارع للتثبيت وللتدخل بسعر أعلى من (السوداء)، ليقف في وجه الهبوط المدوي ويستعمل كوابحه في الوقت غير المناسب، وفي سلوكيات مفاجئة عكس التيار وعكس الواجب.

 وضمن حديثه تكلم ميالة عن تزايد حجم الحوالات، وكلنا نعلم أن هذه الحوالات تتناسب طرداً مع سعر صرف الليرة السورية، وأن توقيتها الزمني يصادف قرب حلول شهر رمضان، وبهذه السياسة أثبت المصرف أنه لا يتوانى عن الوقوف إلى جانب إخوتنا المغتربين ولو على حساب البلد وأهل البلد الذين رفضوا المغادرة، وبذلك وفّر عليهم زيادة تحويلاتهم بتدخّله عكس التيار! وترافقت هذه السياسات مع سياسات مفاجئة في سياق الارتفاع المفاجئ للدولار، برفع سعر طنّ الأسمنت من 28 ألف ليرة ليصل إلى 42 ألفاً، ورفع سعر السكر وغيرهما من السلع، وتعامي وزارة محاربة المستهلك وجمعياتها المثبتة لرؤيتها بعدم التدخل، وذلك وسط قرارات لا معنى لها سوى تكريس التضخم والبعد عن العلاجات القويمة، وعن مواجهة الحرب الإرهابية الاقتصادية الداعشية التي يشنها حيتان الفساد والمخططون العالميون. وكما صرح الحاكم متهماً البنك الدولي وأدواته، ما كانت سياسات المركزي وإجراءاته إلا استمراراً لسياساته السابقة.

إن موضوع الأسعار والدولار أصبح الكابوس الدائم الذي يحاول حرف مسار المعركة عن طريق النور المستمد من الانتصارات المتلاحقة للمؤسسة العسكرية، المدعومة بصبر الشعب السوري النادر الوجود، الشعب السوري الذي أصبح أغلبه ضمن دائرة الفقر، ونصفه تحت خط الفقر في وضع يحزن له كل إنسان حقيقي. ولكن هذا الوضع لم يجد صداه لدى تجار الأزمة ومأجوري البرامج الدولية وعابدي الأموال، بل زادهم قسوة ومغالاة في فرض الظروف المولدة لأموال وثروات، على حساب الدم والعرض والأرض..قبل البدء بإعطاء الحلول نتكلم عن المستفيدين من الدولار المرتفع.. وعن الأجواء قبل الارتفاع الأخير للدولار وللأسعار..

ففي الارتفاع الأخير المدعوم من البنك الدولي وفق تصريحات الحاكم، وقبل فترة من الارتفاع توجهت مكاتب الصيرفة للتخلص مما لديها من دولارات لتفريغ السوق منها، بسعر حوالي 495 ليرة لكل دولار، وترافق ذلك مع السماح للتجار بسحب بضائعهم المقدرة بحوالي 40 ألف حاوية، وكذلك حملة لشراء الذهب من السوق لعدم إعطاء هذا المعدن الفرصة للاكتناز، لكي لا يشكّل عامل ضغط على الدولار، وحتى هذا المعدن أدخل في لعبة السوق السوداء.

وترافقت هذه السلوكيات بحملة لصفحات المضاربين، التي لا تفعل الإدارة النقدية شيئاً لمواجهتها، وهي حملة للتخويف من ارتفاع كبير للدولار جعل شرائح كثيرة تسارع لشرائه بالسعر الذي فرضه المضاربون، وبالتالي أصبح الجو النفسي العام في حالة هلع وخوف كبير زاد من حجم الطلب في ظل عرض محدد ومسيطر عليه، وهنا كانت الضربة الموجعة للشارع السوري، إذ إن هذا اللعب بالدولار ترافق برفع فوري للأسعار، وخاصة السلع التي احتكرتها قلّة، بعد أن سحبت الدولة ومؤسساتها اليد من التدخل بها استيراداً أو بيعاً أو دعماً، هذه السلوكيات الدولارية والسعرية فرّغت العقول والصدور من نشوة الانتصار الذي حققته المؤسسة العسكرية في تدمر، وكأن مسلسل التفريغ يحصل مع كل انتصار عسكري، ومسلسل رفع سعر الصرف لا يفرق بين نصر أو سيطرة للإرهابيين، وهنا الحالة النفسية لا تؤثر إلا كما يريدها البعض، والسؤال المطروح: من يستفيد من اللعب بالدولار أو سعر الدولار المرتفع؟؟

– أول المستفيدين هم المضاربون الذين فرّغوا كل أدوات المواجهة والتأثير ليصبحوا هم اللاعبين الوحيدين، بعد مواجهات وتصديات من المؤسسات المختصة التي حاولت لعب الدور الذي غيّب عن الإدارة النقدية، هؤلاء المضاربون ابتاعوا الدولارات بكميات كبيرة جداً منذ بدء الأزمة، عندما فرّط المركزي بكميات كبيرة وصلت إلى مليارات، طمعاً بالربح بالليرة التي كانت فوائض المصارف منها حوالي 685 مليار ليرة سورية.

– من لديه أقارب في الخارج يقبضون بالعملة الصعبة ويحولون له، وهؤلاء يحاولون التحويل غير النظامي عبر الوسطاء، لأن التحويل من هذا النوع يعطيهم مبالغ أكبر.

– من يجلب المقاتلين ويقبّضهم بالليرة السورية برواتب تعطيهم تمييزاً عن المؤسسات النظامية.

– من يتعامل مع المنظمات الدولية والسفارات ويقبض بالعملات الصعبة.

– من يسكن في الأماكن التي لا تسيطر عليها الدولة السورية.

– من يرتبط بمشاريع خارجية لفرض الحل السياسي الذي يعطيه مزايا ومكاسب، ويحقق للدول الداعمة له الشروط المحققة لمصالحها.

– بعض الفئات التي تتقاضى رواتب مرتفعة وورثة الفساد يبقون خارج نطاق المعاناة والآلام، وإنما هي فئة المضاربات والدولرة المستمرة.

والمتضرر هو سورية، بشرفائها ووطنييها وغالبية سكانها من نازحين وعاملين وعاطلين، بانخفاض القيمة الشرائية لرواتب متآكلة كانت تساوي حوالي 500 دولار وأصبحت لا تساوي 50 دولاراً، في ظل تضخم كبير وصل لحوالي 1000% لبعض السلع، ويبقى السؤال الأهم: ما العمل؟ ولماذا الاستكانة لبعض الضخ الإعلامي الذي لا يلبث أن يخمد، ومن ثم يصل المركزي لرفع السعر كما يريده..

ويبقى موضوع الدول الصديقة والداعمة غامضاً، في ظل عدم أخذه المدى الذي تحتاجه البلد، وفي ظل اعتماد أشخاص بدلاً من المؤسسات، وفي ظل عدم تقليدها بعض الدول التي سارعت لحماية عملات حلفائها بودائع ائتمانية طويلة الأمد…لا بد من جهد جماعي يثبت وطنية القائمين به، وعند امتناع الدول عن الإيداعات الدولارية يجب أن تكون الإيداعات المحلية العلنية لمن كوّن ثروته من هذا البلد، ولمن ثبت وطنيته خلال الأزمة، وللمغتربين الذين ما بخلوا وما وفروا جهداً لتطور بلدهم وتنميته.

 إن التقليل من الطلب وزيادة العرض هو بداية العودة القوية والتي لا يمكن من دونها الولوج إلى مرحلة الاستقرار وبداية الانطلاقة الجديدة، ومن دون إعادة النظر بالأسعار ومواجهة حيتان الفساد ومحتكري أكل العباد. وهنا لابد من تفعيل دور وزارة حماية المستهلك ومؤسسات التدخل ومؤسسات التجارة الخارجية وتفعيل دور مراقبة الأسعار، ومواجهة من يلعب بها ويتحكم بها..

العدد 1107 - 22/5/2024