اعتراف فعلي بالفشل

 ماذا تعني دعوة أوباما السعودية وإيران إلى تقاسم النفوذ في منطقة الشرق الأوسط، كما جاء في مقابلته مع مجلة (ذي أتلنتيك) المنشور ملخصها يوم العاشر من آذار الجاري، إذ دعا إلى (إيجاد وسيلة فعالة لتقاسم المنطقة وإقامة نوع من السلام البارد) بين السعودية وإيران؟

إن هذه الدعوة غير المألوفة في السياسة الأمريكية، تعني بصريح العبارة أن واشنطن عازمة على نفض يدها من مشاكل المنطقة، رغم كونها المسؤول الأول عن تفجير هذه المشاكل وتسعيرها على مدى أكثر من خمس سنوات، والوصول بالمنطقة إلى الحالة المأسوية الراهنة.

ولكن، لأن إثارة هذه المشاكل لم تحقق لواشنطن أهدافها في المنطقة، ولأن واشنطن بصدد تحويل تركيزها إلى جنوب شرقي آسيا، استعداداً لصراعها المصيري مع الصين، ولأن أوباما بعقلية الإمبريالي العريق، لا يعترف بحق الشعوب في الاستقلال الحقيقي، ولذلك فهو يحيل المنطقة ومشاكلها إلى مادة صراع وتجاذب بين السعودية وإيران، لكن دعوته السعودية وإيران إلى تقاسم النفوذ في المنطقة هي في الوقت ذاته، اعتراف صريح بأن سياسة واشنطن وأتباعها في المنطقة قد أفلست، وهي الآن على شفا الانهيار الكامل، وبالتالي فهو يدعو حكام السعودية لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، عن طريق مساومة يائسة وبائسة مع إيران.. بكلمة أخرى، أوباما يقول لحكام السعودية: (الحقوا حالكم)!

ولعل الاستنتاج الأخير هو أصدق ما في أقوال أوباما.. فهو من موقعه المتميز قادر على رصد اتجاه الأحداث في المنطقة، وقادر أن يرى بوضوح كاف أن الحرب الكونية التي جرى فرضها على سورية منذ أكثر من خمسة أعوام تتداعى مقوماتها بسرعة نسبية.. فالعصابات التكفيرية يجري سحقها والقضاء عليها، وبخاصة منذ دخول الطيران العسكري الروسي في المعركة دعماً للجيش السوري، والعناصر السورية التي حملت السلاح تسارع في معظمها، منذ الإعلان عن وقف العمليات الحربية، للانضمام إلى عمليات المصالحة التي تكتسب طابعاً جماهيرياً، ومخططات السعوديين والأتراك لإرسال قواتهم تتبخر ويبتلعها مطلقوها، والعدوان السعودي على اليمن منذ عام لم يحقق أي انتصار نوعي على الأرض، رغم الدمار المريع الذي أحدثه الطيران الحربي السعودي، وفي العراق فقد حكام السعودية ويفقدون ما تبقى لهم من نفوذ هناك، وهذا يتجلى بوضوح في مواقف العراق خلال اتخاذ القرارات في الجامعة العربية التي تديرها السعودية، وليس حالهم في لبنان بأفضل من ذلك، بل إن الإنهاك راح يبدو عليهم، بسبب تفاقم أزماتهم لانغماسهم في التآمر على أكثر من بلد في المنطقة.

وحين يقول أوباما في هذا اللقاء الصحفي إن هناك (قوى جامحة) تتطلع إلى جرّ الولايات المتحدة إلى صراعات طائفية طاحنة لا تمتّ بصلة إلى المصالح الأمريكية، فهل من شك في أنه يرد بذلك على الإسرائيليين والسعوديين الذين عبروا بأشكال مختلفة وفي مناسبات متعددة عن خيبة أملهم في حليفهم الأكبر، الذي لا يستجيب لغرائزهم العدوانية الجامحة لمهاجمة سورية وإيران بالجنود الأمريكيين؟

وغني عن القول في هذا السياق بأن إحجام واشنطن عن الاستجابة لرغبات حلفائها العدوانية هذه ليست بالقطع تعفّفاً ولا احتراماً للشرعية الدولية، وإنما يعود للإدراك العميق بأن حرباً أمريكية عدوانية جديدة في الشرق الأوسط ستكون تكلفتها المادية والبشرية أضعاف حربَيْ أفغانستان والعراق اللتين اكتوت واشنطن بنارهما.

وإذا كان عهد بوش الابن قد مثّل عهد الحروب الأمريكية المباشرة، بعد انهيار النظام الدولي ثنائي القطبية الذي كان يحدّ من عدوانية واشنطن، وكان غزو أفغانستان والعراق تعبيراً عن ذلك، فقد جاء عهد أوباما في ضوء النتائج السلبية لهاتين الحربين، ليمثل التحول من الحروب المباشرة إلى الحروب بالوكالة، لكن تصريحات أوباما لمجلة (ذي أتلنتيك) تمثل أيضاً اعترافاً بفشل الحروب بالوكالة كذلك، رغم ما سببته لشعوب المنطقة من آلام وخراب مريع.ولو قدر لهذا النمط من الحروب أن يحقق الأهداف المرجوة لكانت واشنطن على رأس المحتفلين بالنصر، ولكن إذ تفشل هذه الحروب، فواشنطن تسارع إلى التنصل منها، وحتى من الطائفية التي كانت واشنطن أكثر المتحمسين لنشرها في المنطقة، كما يشير مثال العراق بعد الغزو الأمريكي له، ولهذا كله تلقي واشنطن اليوم تبعات الفشل بكاملها على أتباعها في المنطقة.

وفيما يتعلق بتقييم إدارة أوباما لدول الخليج، وفي مقدمتهم السعودية، فقد سبق لأوباما أن شخّص أسباب مشاكلهم حين صرح في 6/4/2015 بأن مصدر الخطر على هذه الأنظمة (ليس الخطر من الخارج، وإنما من السياسة الداخلية)، المتعلقة بحقوق الإنسان والبطالة، كما فسرها، وكرر ذلك بعد توقيع اتفاق فيينا بين إيران والدول الست الكبرى. وهنا أيضاً لا يعني هذا أن مغامرات هؤلاء الحكام في المنطقة لم تكن تحظى بمباركة واشنطن وتشجيعها، بل لأن فشل تلك المغامرات يعود كما ترى واشنطن، إلى الطابع الهش للوضع الداخلي وتحديداً تركيبة النظام السياسي من مخلفات القرون الوسطى، بينما نشأت في هذه البلدان في العقود الأخيرة طبقات وفئات اجتماعية عصرية، كطبقة رجال الأعمال والتجار المرتبطين بالشركات العالمية، تستطيع تنفيذ رغبات واشنطن على نحو أفضل.

ولعل التعهد الوحيد الذي أتى عليه أوباما في مقابلته المثيرة مع مجلة (ذي اتلنتيك) هو الحفاظ على أمن إسرائيل، قدس الأقداس، في العقيدة السياسية الأمريكية لجميع الإدارات دون استثناء.

وجدير بالذكر، في هذا الصدد، أن بايدن، نائب الرئيس أوباما، زار إسرائيل مؤخراً، وحثّ نتنياهو على الإسراع بتوقيع اتفاق التعاون العسكري مع إدارة أوباما، والمقدر بثلاثين مليار دولار، على مدى عشر سنوات، بينما يبدو أن نتنياهو يفضل الانتظار للإدارة الأمريكية الجديدة ، علّه يبتز ما هو أكثر.

العدد 1107 - 22/5/2024