«الصورة الشعرية.. توفيق أحمد أنموذجاً» لـ د. عبد الله الشاهر

 الصورة واحدة من تحديات عالمنا المعاصر فيما تعادله وتمثله على غير مستوى، وفيما تتبدى، فلها سلطة حاكمة، وجاذبية أثيرة، فكيف هي تجلياتها في الشعر والقصيدة على نحو خاص؟!

لطالما شكلت عوالم الشاعر السوري توفيق أحمد، مثار اهتمام الدرس النقدي والخطاب النقدي، نظراً لحساسية ما يكتبه وما تقوم عليه (عماراته الشعرية) من خصوصيات فنية وأسلوبية، ومكونات بنيوية وخصائص جمالية استثنائية، في قلب المشهد الشعري السوري المعاصر، فضلاً عما تنجزه أجيال الشعراء السوريين في مساحات شواغلهم وأغراضهم وأدواتهم التي تجهر بكينوناتهم الشعرية، وصيروراتهم المدهشة على مستوى الإنجاز والتجريب، وتنكّب المغامرة الشعرية تأسيساً في الصوت وتنوعاً في التجربة، وخلاصة لمكابدات حيوية، كثيراً ما وسم بها الشعر السوري في لحظته الراهنة، وصولاً إلى قراءة ما يمكن تسميته بالعلامات الفارقة في منجز القصيدة بل في الخطاب الشعري برمته، على مستوى ما لاحظه غير ناقد انطلاقاً من (الأنساق الشعرية وبناء السياقات الأدبية).

فمثلاً يحدد الناقد كمال أبو ديب منطلق عبد القادر الجرجاني في دراسة الصورة الشعرية عندما قال: (دراسة الجرجاني للصورة تمثل جزءاً من دراسته لطبيعة المعنى والنظم)، بصرف النظر عما يحيلنا إلى الذهاب إلى شعرية الصورة في شواغل النقاد والباحثين على اختلاف مرجعياتهم وذوائقهم.

لكن إحراز الدلالة بحثاً عن (دالّ فاخر) – بتعبير الناقد الفرنسي الراحل رولاند بارت- لن يجتزئ مكونات تلك التجربة أو يختزلها، لا سيما أن الأجزاء تتكامل في كلية ما يبدع الشاعر أو المبدع عموماً، فالوقوف عند مكون بنائي بعينه واستكناه أسراره الجمالية كان واحداً من شواغل الناقد والباحث د. عبد الله الشاهر في بحثه اللافت عن الصورة الشعرية عند الشاعر توفيق أحمد، مستهلاً كتابه بمقدمة تحدث فيها عن أبعاد اختياره للصورة الشعرية عند الشاعر توفيق أحمد، ومحددات بحثه المنهجي والمتكامل عن الصورة الشعرية بعامة، انطلاقاً من رؤيته للصورة الشعرية بوصفها (لبّ العمل الأدبي الشعري الذي يتميز به المبدع عن غيره، وهي كذلك جوهره الدائم والثابت الذي يمكن أن يتسم به المبدع الشاعر من خلال ما يُبرز من صور شعرية).

ويؤكد د. عبد الله الشاعر في سياق تعليله لاختيار الشاعر توفيق أحمد كأنموذج لدراسته بالقول: لأنه (يعكس الصورة الحية والفاعلة لحركة الشعر العربي السوري من حيث الهموم والطموحات والآفاق والانكسارات) ليكون كتابه كما ذهب للقول: في سياق الإضاءة المنمذجة في نص شاعر أنتج صورة شعرية يمكن أن تكون حالة درسية واضحة.

ويبدو اختيار الناقد والباحث د. عبد الله الشاهر لنص شعري من ديوان الشاعر توفيق أحمد، عتبةً تأسيسيةً للدخول في فضاءات الصورة وتضاعيفها، وما تشي به لمتلقيها ودارسها، ليصل إلى ما يعنيه فضاؤها الثقافي العام في التزامن والتعاقب واستبطان حقل الدلالات الناجزة.

هي إذاً مغامرة في داخل النصوص وقوفاً على غناها بمنهجية رصينة، بوصفها ضرورةً للنص الشعري، ضرورةً حيويةً تأخذنا إلى ما يعنيه في الدرس النقدي العربي معطى تكافئها البنيوي الذي اقتضى من الباحث تحديداً التشكل البنيوي للصور الشعرية، مفتتحا كتابه بالمعطى الحياتي للشاعر توفيق أحمد، وقوفاً عند دالات التجربة وتنوعها الثري، الذي بدا له كسؤال مشروع في مقاربة منجز الشاعر توفيق أحمد، أي بدالّة الكشف عن مكونه الثقافي والاجتماعي، فضلاً عن حياته المهنية ومناخاته الثقافية الحاملة لتجربته بالمعنى الكلي، ليستخلص قولاً دقيقاً فيما تبدى له من أن الشاعر توفيق أحمد يكتب بحرقة العاطفة ووله السؤال الذي يبقى دائماً على تخوم الحيرة، كأي عاشق ينتظر لقاءً، فهو شاعر الطبيعة والحب والجمال… والكلمات بين يديه تغدو قطعاً من الثلج والنار يشكلهما كيفما يشاء، ليشهرها قصائد تلهب الوجدان وتماهي الروح.

وهكذا نذهب إلى معنى الصورة الشعرية ومكوناتها البنائية، وكذلك المفارقة التي يلتقطها الناقد في مقاربته النصية لقصائد توفيق أحمد، التي يوظف بها تلك الخصائص البلاغية على نحو تطبيقي يثري التلقي ويرتقي بالذائقة النقدية ووجدان القارئ.

ويمكن القول هنا إن تحليل النصوص الشعرية التي التقطها الناقد سعياً لالتقاط جوهرها ومفارقاتها، ومدى ما أغدقه الشاعر في صورته الشعرية في اللفظ والمعنى والتصور والتخييل، جعلته يرى أن ما احتشد في النصوص الشعرية، ساهم في الارتقاء بها إلى (الرؤيوية الشعرية) التي تفتح أبواب التنبؤ والإبحار في عالم الصورة الشعرية نحو متاهات متداخلة -كما يقول الناقد- لخلق عالم آخر من الحب والجمال والحزن والتأمل، وقد دعم كل هذا بأشكال المفارقة اللغوية من خلال استخدام السخرية والأضداد والمفاجأة، معلناً قدرة غير اعتيادية في القبض على زمام لغته الشعرية وحيازته لمعمارية نصه الشعري.

ويذهب الناقد والباحث د. عبد الله الشاهر في الفصول اللاحقة للكتاب، وهي فصول خمسة إلى الوقوف عند الموسيقا الشعرية، وبنية الأسماء والأفعال ودلالاتها، وأنواع الجمل والانزياح، ليستخلص خصوصية صوت الشاعر توفيق أحمد وفرادته في سياق الشعر السوري، من حيث تطوير الشكل الشعري، وحيازة قصيدته التمرد على النمط القديم.

إذاً، إن لغة الشاعر تفتح مجالاً واسعاً للكشف عن جماليات نصه الشعري، وتترك الباب مفتوحاً أمام المتلقي للوقوف على تأويل النص، أو إبراز قراءات متعددة وذلك وفقاً للثقافة التي يحملها القارئ، ليؤكد (تماثل الشاعر مع ذاته ومع واقعه، وإبداعه في بناء القصيدة التي أراد لها أن تحمل هموم ومعاناة العام والخاص).

وتلك المنهجية الثرية المتعددة التي قام عليها كتاب الناقد والباحث د.عبد الله الشاهر من شأنها أن تحيلنا إلى مقاربة معرفية ذات قيمة نقدية عالية ولغة نقدية متسقة وبطابعها الإجرائي الذي انفتح على مستويين: مستوى الظاهرة الشعرية، ومستوى الصوت الشعري المحايث للفضاء الجمالي والثقافي والاجتماعي والذاتي، وتجلياته فيما أنجز الشاعر السوري توفيق أحمد.

* الصورة الشعرية ..

توفيق أحمد أنموذجاً

تأليف: د. عبد الله الشاهر

صدر عن دار أفكار وفلستينيا

وتوزيع صفحات للدراسات والنشر

دمشق- الطبعة الأولى 2017

 

العدد 1105 - 01/5/2024