لا تنتشوا أيها الإمبرياليون فالثورة قادمة

تعترف الأوساط السياسية والأمنية الأمريكية بدورها الأساسي في إسقاط المنظومة الاشتراكية، بينما تخفي الأوساط الثقافية ذلك لتظهر السقوط تلقائياً ناتجاً عن فشل إمكانية تطبيق النظرية الماركسية، ونسمع اليوم كثيراً من ( التطبيل) حول طوباوية الاشتراكية وخشبيّتها وما شابه من التصورات الخالية من القراءة الجدلية المادية العلمية للتاريخ، التصورات الضبابية التي خلقتها وسائل الدعاية الإمبريالية في وعي الناس، عن طريق مفكرين اشترت ضمائرهم، وأسهموا في تكريس السقوط، على أنه نهاية للفكر الشيوعي، ونصر قطعي للرأسمالية، بحجج أهمها عدم تحقق حتمية الثورة في الغرب، كما توقعها ماركس وأكدها لينين، والحقيقة أن الظرف التاريخي الذي ألف فيه لينين كراسه (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية)، كانت حدة التناقضات داخل المنظومة الرأسمالية الغربية قد بلغت حداً من التأزم أوحى بحتمية الثورة من المنظور الجدلي الماركسي، لكن جملة من الأحداث التاريخية أخّرت قيامها، ومكّنت الإمبريالية من إعادة إنتاج ذاتها، ولكن إلى متى ؟

كان كارل ماركس قد حدد ساحة الثورة بالدول الأكثر تطوراً صناعياً، التي تنتج طبقة عاملة أكثر تطوراً فكرياً ثورياً، كما حدد ضمانات نجاح الثورة واستمرارها بضرورة قيامها في مجموع تلك الدول، مما سيقيها من هجمات تحالف القوى الرجعية، لكن الثورة الاشتراكية لم تقم في الغرب بل في روسيا، التي تعد بلداً زراعياً متخلفاً صناعياً، بالنسبة إلى دول الغرب، لكن الطبقة الكادحة الروسية كانت قد اجتازت مدرسة رائعة في المنظمات الطوعية، رغم افتقارها للتجربة السياسية التي اكتسبتها الشعوب الغربية على حد تعبير جون ريد (عشرة أيام هزت العالم- ص14)، وكان المناشفة يعتقدون أيضاً أن روسيا ليست ناضجة اقتصادياً للقيام بالثورة، والجماهير الروسية ليست على قدرٍ كافٍ من الثقافة الضرورية لاستلام الحكم، ولذلك أطلق جون ريد على الثورة الاشتراكية الروسية تسمية (المغامرة الرائعة)، التي اقتحمت التاريخ وراهنت بكل شيء في سبيل تحقيق رغبات الجماهير الواسعة والبسيطة (ص16، المصدر السابق).

 قامت الثورة بالزخم الثوري للجماهير المضطهدة بقيادة لينين وانتصرت وشكلت ظاهرة تاريخية استثنائية (أثبتت الإمكانية الواقعية للانتقال من نظام الاستغلال الرأسمالي إلى نظام أكثر عدلاً ومساواة)، كما جاء في منشور اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري الموحد حول الذكرى المئوية لثورة أكتوبر الاشتراكية، الذي أكّد أنها، رغم نقاط الضعف والأخطاء التي رافقت الثورة، تعد إنجازاً إبداعياً للسلطة العمالية، من خلال التملك الاجتماعي لوسائل الإنتاج وإدارتها وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية المجانية، وتطوير الثقافة وإنصاف المرأة وتنظيم التعايش بين الشعوب، وإنهاض النضال الطبقي والتحرري في مختلف البلدان، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي جعلت من روسيا دولة عملاقة في القرن العشرين.

لقد أكد ذلك المنشور أن انهيار النظام الذي كان قائماً ليس انهياراً للأفكار والمبادئ الماركسية، وأن مسار سبعين عاماً من عمر ثورة أكتوبر الحافل بالإنجازات الكبيرة داخلياً وخارجياً، لا يمكن اختزاله بما اعتراه من انحرافات، وهو ردٌّ مختصر على الدعاية الإمبريالية التي دأبت على النفخ في الأخطاء الداخلية، وشنت هجمات لم تتوقف على الستالينية بوجه خاص ومجمل التجربة السوفييتية بوجه عام.

إن الزخم الثوري في الشارع الروسي قد حل مسألة قيام الثورة خارج الساحة التي حددها ماركس، لكن مسألة حماية الثورة لم يكن بالإمكان حلها دون المركزية الشديدة الصارمة التي فرضها ستالين في مواجهة أعداء الثورة الداخليين من عملاء الغرب، علماً بأن انتصار ستالين على هؤلاء وعلى جحافل النازيين وتثبيته دعائم الشيوعية في أوربا الشرقية، ومده الأحزاب الشيوعية الأوربية مادياً ومعنوياً، ومساندته حركات التحرر الوطني في العالم، وثورتي اليونان والصين، ونشره شبكة شيوعية واسعة عبر كندا والولايات المتحدة، ضاعف مقدار الرعب في أوساط الطغم المالية إلى الحد الذي أصبح معه هاجس توسع الشيوعية في أوربا كابوساً ثقيلاً محفزاً في الوقت ذاته على بذل أقصى ما يمكن من المقاومة، فالولايات المتحدة التي جنت وحدها ثمار الحربين العالميتين، وهي وحدها المتمتعة بازدهار اقتصادي يسمح لها بمواجهة الشيوعية، وفي الوقت نفسه الذي قاتلت قواتها إلى جانب السوفييت ضد النازيين، كان الرئيس روزفلت قد عيّن على رأس مكتب الخدمات الاستراتيجية وهو الخلية التجسسية الأمريكية الأولى (وليم دونوفان)-1942 مكلفاً بمهمة نشر ستة عشر ألفاً من العملاء في العالم، لجمع المعلومات بهدف مواجهة الشيوعية، وفي عام 1947 حين تأسست وكالة المخابرات المركزية، خُصّص قسم سري لإدارة الصراع مع الاتحاد السوفييتي، ترأسه الضابط السابق المعروف بعدائه الشديد للشيوعية (فرانك ويسنر)، الذي طور أسلوب البريطانيين في اختراق الخصوم أمنياً، الأسلوب الذي لعب دوراً مركزياً في تغيير المسار التاريخي لأوربا بأكمله، عن طريق ضرب الماركسية بالماركسية، والاستحواذ على نشاط المفكرين والكتاب، وقادة الأحزاب السياسية والنقابات والفنانين والإعلاميين، إلى جانب اغتيالات القادة الشيوعيين، والمشاريع الاقتصادية والسياسية ( ترومان، ومارشال)، التي أحكمت سيطرة واشنطن على أوربا، وحولتها إلى جبهة متقدمة معادية للشيوعية، تحت قبضة حلف الناتو العسكري، إلى جانب الحصار الاقتصادي المفروض على الكتلة الشرقية، وإرهاق الاقتصاد السوفييتي بسباق التسلح، والتلاعب الأمريكي السعودي بأسعار النفط، وكانت الولايات المتحدة التي سبق لها أن استخدمت السلاح الذري في هيروشيما وناغازاكي عام 1945، مستعدة لاستخدامه ضد البشرية جمعاء لمنع قيام الثورة في أوربا.

في الواقع، إن سياسة الاختراق الأمني لم تكتفِ باستحواذ غالبية أقطاب اليسار الأوربي، وخلق وعي شعبي أوربي غير سياسي، معادٍ بشكل هستيري للتنظيم الحزبي وللسوفييت خصوصاً، ولا على الجانب الإعلامي وتضخيم البيروقراطية في قطاعات الدولة السوفييتية واللعب على غرائز الناس، بل طالت الحزب الشيوعي السوفييتي نفسه، ففي مقال هام جداً لـ(فيكتور زور كالتسيف) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في روسيا الاتحادية بعنوان (الأقوياء معنوياً لا يسلمون الحزب) (نشرة دفاتر الحزب- دمشق 2003)، تحدث عن اللعبة الأخطر التي جرت داخل الحزب بتفريغه من الكادر القيادي، فالآلية المتقنة التي اتبعت في الحزب لتنمية الكوادر القيادية بالتدرج ضمن العمل السياسي الميداني، التي أفشلت محاولات تروتسكي للاستيلاء على المواقع القيادية، و أدت إلى توطيد موقع ستالين، وهو واحد من المحترفين الذين قادهم لينين بنفسهن وهو الذي بنى جيلاً من الكادرات الحزبية التي حظيت بالمجد في سنوات الخطط الخمسية الأولى، والحرب الوطنية وإعمار البلاد والنمو العاصف للاقتصاد والثقافة السوفيتيين، ولكن منذ عهد خروتشوف بدأ التوجّه نحو تثقيف الكادر بالتراجع، وأما الضربة المميتة لطاقة الحزب فهي الحملة التي قام بها غورباتشوف، تحت ستار تجديد شباب الحزب، فاستبدل بالكوادر المجربة والناضجة وذوي الهيبة والنفوذ، آخرين من المتكيفين والخونة، فجرد الحزب من أسلحته وهي خيانة لم يحدث أن عرف مثلها أي حزب سياسي على نطاق العالم كما يقول المؤلف.

وذلك يفسر سرعة الانهيار عام 1991، تحت ضغط ما سمي بالثورات المخملية التي خططها (جين شارب)، في مراكز البحث الأمريكية، وربح الإمبرياليون الجولة وانتشوا بإزالة العقبة الشيوعية الأكبر من طريقهم، لفرض هيمنتهم على العالم باختراع عدو وهمي جديد منفوخ، يمكنهم من استخدام أسلحتهم في مختلف بقاع كوكبنا على حساب حياة الشعوب وحريتها وأمنها.

عبّرت عن تلك النشوة أطروحات النخب الأمريكية المثقفة بما تضمنته من نظريات التفوق الأمريكي، وحق الولايات المتحدة في قيادة العالم، كما عبرت النخب السياسية من الليبراليين الجدد الذين جاء كثيرون منهم من أصول تروتسكية عن ذلك، وبشّر الرئيس الأمريكي بوش بأن مرحلة ما بعد الحرب الباردة ستولد النظام العالمي الجديد، المتحرر من التهديدات الإرهابية، والساعي لتحقيق العدالة والسلام والأمن، الذي تزدهر فيه كل أمم الأرض وتعيش في تناغم، وكان ذلك نفاقاً فاضحاً ووقحاً، إذ كانت أجندة هؤلاء الليبراليين الخارجية تحت اسم (القرن الأمريكي الجديد)، تتضمن شن حروب بلا حدود لتأمين بيئة أمنية في المناطق المتوترة، وفرض المصالح الأمريكية وتدمير الأنظمة المعادية.

ما حدث في العالم من كوارث منذ عام 1991 حتى الآن نتيجة للجموح المستعر للسيطرة الأمريكية على المواد الأولية، ومصادر الطاقة، بعنوان محاربة الشر يفوق التصور، وخاصة في مجال العنف الموجه ضد المدنيين، سواء كان عنف قوات الناتو نفسها، أو عنفاً إرهابياً طائفياً ومذهبياً وعرقياً، ناجماً عن الثقافة الجديدة المثقلة بالعدائية، التي فرضها النظام العالمي الجديد، لتمزيق المجتمعات من الداخل، إضافة إلى ما تركته من آثار وخيمة للغاية على الدول والأفراد السياسات الاقتصادية، وشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فخُمس سكان العالم يعيشون اليوم تحت خط الفقر المدقع، يعني أن 22% يعيشون على 1.25 دولاراً أو أقل في اليوم، بينما لا تتجاوز هذه النسبة 1% في الولايات المتحدة.

إن الصراع مستمر وتتكشف للشعوب يوماً بيوم وسائل النهب الاستعماري، وسفالة السياسات الاقتصادية والأيدولوجية، التي فرضتها الليبرالية الجديدة على العالم، وما نجم عنها من فوارق طبقية غير مسبوقة، وحروب ومجازر وملايين من ضحاياها، ومن الفقراء والمضطهدين في الغالبية من بلدان العالم، عالمنا الذي أصبح متوحشاً، متوتراً، مفتقراً للأمان والحرية والسلام والعدالة، الملطخ بالدم من رأسه إلى أخمص قدميه، المنهوب والمهزوز مالياً الذي خربت بيئته وقيمه، وتفاقمت تناقضاته ومآسيه بفعل الأنانية المفرطة لعصابات القتلة واللصوص، التي ربحت جولة من الصراع ونجت بنفسها طوال قرن من مصيرها المحتوم، لن تملك الفرصة للبقاء إلى الأبد في منأى من غضب الشعوب المقهورة، ما من شك بأن فائضاً من أسباب الثورة العالمية تتراكم بتحول الأزمات المالية إلى اجتماعية فسياسية، وما من شك بأن الثورة قادمة لا محالة.

العدد 1107 - 22/5/2024