متى نتخلى عن شعار: دعه يهرّب.. دعه يمرّ؟!

 يلتهم التهريب الاقتصادَ السوريَّ، ينهش مقدراته بلا هوادة، ويحرم خزانة الدولة من 80% من مواردها، وفقاً لتقديرات حكومية. هذا المرض السرطاني، يتورّم بتسارع كبير، يُشيع حالة غياب الدولة، يشرعن الفوضى، ويهدّد الإنتاج الوطني. وتقرّ حكومة عماد خميس، بكامل أعضائها، بتغلغل التهريب في الاقتصاد. يتحدث الوزراء عنه وكأنه ليس من اختصاصهم، لجهة مكافحته، وضرورة محاسبة منفّذيه.

لا يقلّ التهريب خطورةً عن الفساد. الفاسدون والمهربون يشتركون في المصلحة ذاتها، ويضخّون في جيوبهم المزيد من المليارات. يزعمون أنهم يوفرون سلعاً، المواطن بحاجتها. إنه كلام حق، يراد به باطل. إذ يمكن إدخال هذه السلع بشكل نظامي، لكن دخولها تهريباً، يعني فقط التهرب من تسديد رسومها، وأكل حق الدولة.

تصر الحكومة في كل مناسبة، على توجيه الدعوات للحد من التهريب، تكتفي بهذا النشاط الإعلامي، لإخلاء مسؤوليتها. تفضّل الكلام، وتقصُر الأفعال. تقف شبه مكتوفة الأيدي في مواجهة التهريب. تؤجل الإجراءات، وترمي بالكرة في ملعب المسؤولين الآخرين، الذين بيدهم مفاتيح التهريب، ويعرفون أبوابه ونوافذه، أي الجمارك. ومذ تشكيل حكومة خميس، وبدئها باجتماعات مساء الأحد الاقتصادية، والجمارك هي الحاضر الأبرز. العين المفتوحة على الجمارك، لاتفعل شيئاً، تكتفي بالتوجيهات، دون إجراءات فعالة، تعيد الألق لهذه المؤسسة التي باتت تحت الشبهات. فالجمارك هي الشريك للمهربين، شراكة شخصية، يحكمها رأسمال المجازفة. تتبدد هنا مقولة رأسمال الجبان، لو كان رأسمالاً جباناً فعلاً، لما دخلت سلعة تهريباً. ثمة تفسير آخر، لولا الضمانات التي يحصل عليها المهربون من ألدّ أعدائهم- أي الجمارك- لما جازف تاجر بتهريب سلعة، ولما أدخل مستورد منتجات بعشرات ملايين الليرات، ومن ثم يكون مصيرها الحجز، وتسديد الغرامات.

هنا تتبدى الخصوصية الاقتصادية السورية، وتتجلى في أبهى صورها. يرفع المهربون بالتواطؤ مع الجمارك شعاراً مسروقاً من الاقتصاد: (دعه يُهرِّب، دعه يمر). يبدع المهربون في طرائق إيصال السلع، يقدمون أفكاراً لتمرير منتجاتهم المهربة، يغزون بها أسواقنا المحلية، متكئين على خيمياء بسيطة: توحّش الرأسمال، ورفع منسوب الرشا، وإغراء الجمركيين بمزيد من الليرات. لا تدخل سلعة مهربة إلا بتواطؤ، هذه قاعدة لا يمكن تجاهلها. من الممكن أن يتم تهريب عدد بسيط من السلع، لكن ماذا عن الكميات الكبيرة؟ وماذا عن المخازن المملوءة؟ ماذا عن المتاجر التي لا تبيع سوى المهربات؟ هذه لا يمكن إخفاؤها.

لا شك أن ضبط المنافذ الحدودية، هو أمر مستحيل، الحرب التي من تجلياتها خسارة الجمارك سيطرتها على المنافذ المذكورة، دفعت برواية صعوبة ضبط المهربات إلى الواجهة، وتعميق الشعور باللامسؤولية. وبحكم المؤكد، الجمارك قادرة على ضبط مداخل المدن الكبرى، وقادرة على التجول في الأسواق، والتأكد من البيانات النظامية للبضائع. هذا العمل الذي يجب أن تقوم به، وهو من واجبها، هي من تعطّله.

هل يوجد جهة حكومية تمنع الجمارك من ضبط الأسواق من السلع المهربة؟ هل تداخل الصلاحيات مع التجارة الداخلية يعرقل عملها؟ ربما لا رغبة للتجارة الداخلية والجمارك في متابعة ملف التهريب، إنهما يتقاذفان المسؤولية للتهرب منها، يبحثان في الصلاحيات حتى لا تكون الأمور واضحة. كل سلعة بلا بيان جمركي، أو بلا فاتورة نظامية، يثار حولها آلاف الأسئلة، من لحظة دخولها، لغاية وضعها في الاستهلاك المحلي. في العام الماضي، وعند انتهاء فترة نفاد مرسوم السماح بالمصالحة على البضائع التي دخلت تهريباً، حاول (لوبي) المهربين تمديد الفترة القانونية. وضعوا ثقلهم لكسب مزيد من الوقت، خلقوا الأعذار، قدموا التعهدات، وكل ذلك باء بالفشل. لأن الجمارك بدأت بحملة المكافحة، والبعض أطلق عليها حملة المداهمة، وكانت النتيجة، عشرات مليارات الليرات تدخل خزانة الدولة.

هذا الملف الشائك في ظاهره، هو في غاية البساطة عند البدء بفك شيفرته. والمشهد التهريبي واضح، إذ إن الجمارك تعرف المهربين، وكذا الوزراء، والمهربون يعلمون تماماً من أي باب يدخلون بضائعهم. أي لابد من البحث عن دود الخل، ومداواة الجراح التي أهلكت الاقتصاد السوري، بالكيّ أو بغيره من الطرق. يمكن سنّ تشريعات قوية، تحد من التهريب، مثلاً كل بضائع مهربة تصادر، وتعود ملكيتها لمؤسسات التدخل الإيجابي، وهذا لا يعفي من محاسبة القائمين بالتهريب والمتواطئين معهم. هذا جزء من تشريعات الحرب. المهربون يشنون حرباً ضد الاقتصاد الوطني، ويتذرعون بوداعة الحمل. فلماذا لا يعاملون كما يستحقون؟ وبمثل أعمالهم؟ تضييق الخناق على المهربين، هو وقوف مطلق بجانب المستوردين الحقيقيين، وبجانب التجار الذين يملي عليهم واجبهم المهني، وأخلاقهم المتعارف عليها، أن يستمروا في العمل. وهو أيضاً، وقوف بجانب المنتجين الحقيقيين، ودورهم المهم في مواجهة تدمير الاقتصاد. المهرب هو الوحيد الذي يشكو من التضييق في حال تحركت الجمارك، والحكومة هي التي تتغاضى، وتتساهل.

 

العدد 1105 - 01/5/2024