أثر ثورة أكتوبر الاشتراكية في سورية

25 تشرين الأول 1917 يوم محفور في ذاكرة الشعوب كأكثر أيام التاريخ إشراقاً،  فهو أول يوم تصل فيه الطبقة الفقيرة المضطهدة، إلى السلطة بقيادة الحزب الشيوعي وعبقرية لينين الفكرية والسياسية والتنظيمية، وعلى الرغم من العوائق والصعوبات الهائلة والآثار المدمرة للحرب الخارجية والداخلية على المجتمع والبنى التحتية، تمكنت الثورة من نقل روسيا من حالة التخلف إلى المنافسة الحضارية والنفوذ، ومقارعة الإمبريالية على المستوى الدولي.

بعد نجاح الثورة بعامين تشكلت الأممية الشيوعية التي عقدت ثلاثة مؤتمرات تركت أثرها البالغ على العالم وبضمنه منطقتنا، ومن أهم آثارها تشكيل الأحزاب الشيوعية العربية وتهيئة الظروف والشروط لنشوء حركات التحرر الوطني وتشكيل جامعة كادحي الشعوب لتأهيل الكوادر الشيوعية القادمة إلى موسكو من مختلف البلدان، وتكريس مقولة لينين حول حق الشعوب في تقرير مصائرها، والتركيز على سياسة التحالفات بين القوى الثورية الصاعدة.

بدأ تأثير ثورة أكتوبر الاشتراكية بالظهور مع تشكيل نقابة عمال التبغ والمنظمات الشيوعية في لبنان وسورية من مختلف الطوائف والمذاهب والأعراق، التي توحدت في الحزب الشيوعي السوري اللبناني كأول حزب يتبنى قضية الجماهير الكادحة ويعبر عنها ويناضل من أجل حقوقها ورفع مستواها. وقد كان احتفاله في عام 1925 في 1 أيار – قاعة الكريستال ببيروت – أول احتفال علني بعيد العمال في بلادنا، أطلق فيه أول نداء لتحديد ساعات العمل، توج سلسلة من الإضرابات والمظاهرات الدامية التي جمعت بين النضالين الطبقي والوطني ضد الاحتلال الفرنسي لبلادنا. ففي البرنامج الذي نشره الحزب الشيوعي السوري اللبناني عام 1930 تركيز على تقويض النظام الرأسمالي الاستعماري وعملائه، وعلى مهام تحرير سورية ولبنان وتلبية المطالب العمالية والتحالف بين العمال والفلاحين.

أوائل عام 1944 عقد الحزب مؤتمره الوطني في بيروت وأقر بنود الميثاق الوطني، ومن أهمها التأكيد على استقلال وسيادة سورية ولبنان، وتوثيق صلات التضامن الوطني، وتوطيد الروابط الاقتصادية والثقافية بين الشعوب العربية والمساواة بين جميع السوريين، وتأمين الحريات العامة والفردية، وتربية النشء تربية وطنية، والتعليم والطب المجانيان، وحماية العائلة السورية من أخطار البؤس والجهل، ورفع مستوى المرأة والعناية بصحة الأم والطفل، ومعالجة البطالة ووضع تشريع للعمل والعمال، وتحرير الفلاحين من التأخر… الخ.

ويقول المؤرخ عبد الله حنا في كتابه (الحركة الشيوعية السورية – الصعود والهبوط ص 17): إن الحكم على بنود هذا الميثاق يجب أن يفهم في إطار مفاهيم تلك السنوات، والمستوى الثقافي لواضعي البرنامج، ومدى تطور القوى المنتجة ونسبة القوى الطبقية. وأضيف إلى ملاحظته توضيحاً يتعلق بضرورة الالتفات إلى الخرق العميق الذي تمكنت الثورة الاشتراكية من إحداثه داخل مجتمعات وريثة للاستبداد السلطاني العثماني، تسودها نسب طاغية من الجهل والتخلف والأمية، ومدى عظمة الرواد الأوائل والمخاطر الكبيرة التي تعرضوا لها.

فعلى الرغم من منع السلطات الفرنسية نشاط الحزب وإغلاق مقراته والمؤسسات التابعة له، وزج قيادييه وكوادره في السجون وتعذيبهم، وسقوط عدد كبير من الشهداء، لم يتوقف النضال حتى إعلان الاستقلال في 17 نيسان 1946. وعلى الرغم من صلابة الإرث القبلي الرجعي وتكريس ثقافة الملاك الكبار المرتبطة مصالحهم بالاستعمار في وعي الطبقة الفقيرة (مبدأ مشيئة الله التي صنفت الفقراء خدماً، ومشيئة الله التي منحت الملاك حق استعبادهم)، فإن تلك الصلابة كسرت أمام المد التحرري الجارف الذي قاده الحزب.

يروي الرفيق النقابي إبراهيم بكري في كتابه (أوراق حزبية ونقابية): (لقد شاهدت الكثير من العمال الذين باعوا طناجرهم أو فرشاتهم أو معاطفهم كي يؤمنوا لقمة الخبز لعيالهم رافضين العودة إلى العمل قبل تحقيق مطالبهم)

بتلك التضحية وذلك التفاني تكونت النقابات العمالية في سورية ولبنان نتيجة الإضرابات والمظاهرات، وكان يجري انتزاع الرخص لتشكيلها تحت ضغط ألوف العمال وقادتهم في كل مدينة، وتعد مسيرة الرفيق بدر مرجان الذي استخدم مهنة تجارة البيض للتغطية على نشاطه الحزبي بين فلاحي الساحل السوري من التجارب النضالية النادرة، فهو المؤسس الأول لمنظمات الحزب في الجبال الساحلية، التي عملت على تطبيق مضمون برنامج الحزب في مجال المطالبة بتوزيع أراضي الإقطاعيين على الفلاحين، إذ كانت مساحة الأراضي المزروعة في سورية تبلغ خمسة ملايين ونصف المليون هكتار يملك 4 ملايين منها 8 آلاف من الإقطاعيين وكبار الملاك بينما كانت نسبة الفلاحين تشكل أكثر من 60% من عدد السكان، وكانت ساعات عملهم من 14 إلى 16 ساعة في اليوم تحت الضغط والإهانات والسخرة.

أقام الحزب بين عامي 1947 و1954 مؤتمرين فلاحيين في كل من الساحل السوري والجزيرة، أعاد فيهما التأكيد على توزيع الأراضي، وإلغاء السخرة، ومنع فرض الضرائب على الفلاحين، وضرورة الخلاص من أوضاعهم البائسة، وفتح المدارس والمستوصفات لهم..الخ وانبثق عن المؤتمرين لجان للدفاع عن حقوق الفلاحين، وتأسيس اتحاد الفلاحين الذي ضم أكثر من 4 آلاف عضو من الجبال الساحلية، و3 آلاف عضو من الجزيرة، وألفين وخمسمائة عضو في مناطق الأكراد شمال سورية.

عبر نضال الحزب حل التضامن الفلاحي لجميع الطوائف والعشائر محل التضامن الطائفي والعشائري، وعرف الفلاحون سبب فقرهم وجهلهم وحرمانهم هو الاستعمار وأتباعه من الإقطاعيين الذي شكلوا سنده الداخلي، ولذلك فإن نضال الفلاحين من اجل حقوقهم كان جزء من نضالهم من أجل الاستقلال الوطني، وعبر ذلك النضال  غابت الأحزاب البرجوازية التقليدية وصعدت الأحزاب الثورية من قلب البرجوازية الصغيرة، كحزب البعث العربي الاشتراكي، كما ورد في كتاب الرفيق دانيال نعمة (الحراك السياسي في سورية خلال نصف قرن)، موضحاً أثر الاشتراكية العالمية في التحولات الداخلية السورية من خلال التدابير الاقتصادية والسياسية والفكرية التي بدأت في 23شباط 1966 للقضاء على التخلف الموروث ودفع البلاد في طريق التقدم، وكان الحزب الشيوعي على رأس جميع المعارك لتصفية بقايا العلاقات الإقطاعية، وبناء قاعدة للتطور الصناعي ونفوذ للقطاع العام، وتحت تأثيره أُنجِز بناء أول مصفاة للبترول بمساعدة تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية، وجرى التوقيع على اتفاقية بناء سد الفرات مع الاتحاد السوفييتي، ومد السكك الحديدية وإشادة عدد من المصانع الهامة.

تبدى أثر ثورة أكتوبر الاشتراكية أيضاً في نضال الحزب الشيوعي السوري من أجل إزالة القيود التي تمنع تطور المرأة السورية ومشاركتها في بناء المجتمع، وفي الحياة السياسية والثقافية، فكان الحزب أول تنظيم تتضمن أول وثيقة برنامجية له قضية تحرير المرأة السورية والدفاع عن حقوقها، في زمن سواد الاستبداد والقسوة الملبدة في ثنايا وتلافيف الوعي الاجتماعي الديني المتزمت. كان تعامل الدستور مع المرأة فيه كنصف رجل، وتعامل المجتمع معها كخادمة ومنجبة ومربية للأولاد ومنظفة للبيت وطباخة، وغسالة لأقدام الرجال وملابسهم، وجسد يؤمن لذاتهم الجنسية. في زمن اعتبار المرأة ملكاً من ممتلكات الرجل، أسس الحزب الشيوعي أعرق تنظيم نسائي عمل على الساحة السورية، وهو رابطة النساء السوريات منذ 1948.

على الجانب الثقافي تركت الثورة الاشتراكية أثرها البالغ على المثقفين والمفكرين، فكوكبة من ألمع هؤلاء كانت إما في صفوف الحزب الشيوعي أو تنقل أفكاره في نتاجها أو هي على صلة وصداقة حميمة معه. وبفضل الحزب تأسست رابطة الكتاب السوريين التي تطورت فيما بعد إلى اتحاد الكتاب العرب، وشكلت عهداً جديداً في تاريخ الحركة الأدبية في سورية، وكانت ظاهرة فريدة من نوعها في العالم العربي.

كانت النجاحات التي يحققها الحزب تتعارض كلياً مع استراتيجية الغرب الرأسمالي في المحافظة على وضعية التخلف الاجتماعي، وإخضاع الحكومات لمنطق التبعية تحقيقاً للمصالح الاستعمارية المتناقضة مع مصالح الشعوب. فمن فجر استقلال البلاد لم تتوقف السفارات عن حبك المؤامرات للهيمنة على القرار السوري  ووقف النشاط التحرري وكبح جماح النزوع التقدمي للقوى اليسارية السورية، اعتباراً من محاولة بريطانيا تحقيق مشروع سورية الكبرى بالتعاون مع الأمير عبد الله حين أصبح ملكاً للأردن، وكان يحلم بضم كامل سورية تحت سلطته كوكيل للتاج البريطاني، إلى وقوف المحافل الماسونية وراء وصول حسني الزعيم إلى رأس السلطة، إلى تشكيل فرع خاص بمحاربة الشيوعيين في الشعبة الثانية أيام حكم سامي الحناوي برئاسة أكرم طبارة  ومساعدة  ممدوح الميداني المجندين لصالح المخابرات الألمانية، إلى محاولة الولايات المتحدة إقامة مشروع الدفاع عن الشرق الأوسط عام 1954 لمواجهة (الخطر الشيوعي) أو ما سمي بحلف بغداد، إلى المؤامرة الكبرى عام 1956 بإدارة واشنطن بالتعاون مع حكومة نوري السعيد في العراق وبعض القوى السياسية السورية، إلى المؤامرة السعودية عام 1958برعاية المخابرات المركزية…الخ.

لقد كان الحزب الشيوعي على المتراس دائماً في معركة استقلال القرار السوري وحق سورية في تقرير مصيرها، وفي مواجهة كل المؤامرات، حتى أن سامي جمعة الذي أدار الشعبة الثانية وأشرف على اعتقال وتصفية قيادات الحزب الشيوعي وكوادره أيام الوحدة المصرية السورية اعترف بنفسه بهذه الحقيقة في كتابه (أوراق من دفتر الوطن)، بينما يتفاصح بعض من ضللتهم الدعاية الامبريالية المعاصرة من أحفاد طبقة المسحوقين الذين أفنت كوادر الحزب ذاتها من أجل نيل حقوقهم ومساواتهم بالآخرين، ويسأل اليوم بتهكم أبله ناجم عن جهل بوقائع التاريخ: ماذا فعلتم أنتم أيها الشيوعيون؟

العدد 1107 - 22/5/2024