الشاعر محمد العتيق وطرائد النور

تكثر المحطات الجديرة بالتوقف عندها في تجربة الشاعر محمد العتيق الإبداعية، من عمق في التصوير النفسي وتفجير للمعنى عبر علاقات فريدة بين الكلمة والرمز وموسيقا اللغة العربية هي أشبه ما تكون بتلك التوليفات الغرائبية المفعمة بالجمال والجاذبية التي يضطلع بها الفنانون التشكيليون، حيث نخرج عن الواقع إلى مساحات لم نألفها، لنعود إلى الواقع مشحونين بالأسئلة والمزيد من الرؤية، مشحونين بقلق عذب يحفزنا على استحضار الجمال أكثر فأكثر في واقعنا.

تنوعت الشواغل الوجدانية للشاعر العتيق في مجموعته الشعرية (طرائد النور)، فتطرق إلى نقاط ساخنة نلمسها اليوم في مجتمعنا، كتنامي الفقر ومعاناة الطفولة والتفكك الاجتماعي والطبقية، ومن جهة أخرى حضرت في المجموعة الشعرية قصائد ذات منحى صوفي، وقصائد عن المحبوب. ورغم طرح قضايا ومسائل فكرية واجتماعية ومقاربات للواقع بطريقة فنية، لم يبتعد الشاعر العتيق عن الرومنسية، فقد أبقى على روح المدرسة الرومنسية العذبة مستبدلاً بسطحيتها في الطرح المعالجةَ برؤية عميقة وطرح جدلي، جاعلاً العديد من أبيات قصيدته محطاتٍ تأملية زاخرة بجماليات اللغة العربية وموسيقاها.

(شرب الندى ظمآن من عرق الصدى

 وعلى رمال الدهر شط من ردى

 ركب السفينة فوق موج الحلم يبحث عن شراع).

هناك أسئلة يطرحها المتلقي أمام هذه اللوحة التشكيلية ولا يستطيع أن يمر أمامها مرور الكرام. يقول الشاعر ضمناً: لقد ضيعتهم أحلامهم فالأحلام في حالة تدافع وقد شبّهها بالموج، لكن ما قيمة ذلك فلا وصول بلا شراع. وهناك أيضاً مثال على الفنيات الموظفة لخدمة المعنى والمبنى معاً، فالجناس الناقص في قوله (شرب الندى ظمآن من عرق الصدى) رفعٌ للموسيقا الداخلية للنص وخدمة للمعنى، فهناك تضادّ دلالي رغم التجانس اللفظي النسبي، ذلك أن (الندى) رمز للتجدد والاستمرارية، بينما (الصدى) رمز للتكرار وانعدام القيمة المضافة.

ورغم كل الميزات الإبداعية للمجموعة الشعرية (طرائد النور) بقيت الجملة الإنشائية تصارع الجملة الشعرية في مواضع قليلة من قصائد هذه المجموعة.

جاء في قصيدة عروس الليل:

واحزنَ نفسي كم تموتُ ثواني

تفنى بنوم العاشق الولهان ِ

الليلُ جسرٌ أمتطيه إلى الرؤى

خلٌّ وفيٌّ يستبيحُ كياني!

*********

وفي مثال آخر نذكر قوله:

جموحي كطين وضلعِ انفتاق

أهاجر حُرّاً وأبعثُ حُرّا

تعالي بروحي كموج فبوحي

كنبع كأني أعاقرُ سحرا

نلمس فيما سبق تضافر الموسيقا الداخلية والموسيقا الخارجية للنص الشعري، واستثمار الجناس الناقص لتعزيز الموسيقا الداخلية. ولعل تنوع مواضيع القصائد والأغراض الشعرية المُرادة منها هو ما تسبب بهذا التنوع في بحور الشعر والقوافي كل بما يناسب موضوع النص وغاياته. ويشي التفاوت بين حجم القصائد بأن الشاعر يكتب عندما تتملكه دفقات شعورية، فيكون النص الشعري محكوماً بمدى تلك الدفقة، وهذا خلافاً لما يقوم به الشاعر الذي ينظم الشعر نظماً دون وجود حركة وجدانية حقيقية تعاطفاً مع حالة إنسانية أو مسألة اجتماعية فكرية ما. ولعل في اتساع الفضاء المشهدي والابتكار في التخييل إن وظفا في خدمة الدلالة مؤشراً على بزوغ قامة شعرية تصدح بمعاناة السوريين في هذه المرحلة.

 ورغم التزام الشاعر العتيق بالعناصر الفنية للقصيدة العربية إلا أنه في طلائع المحدثين، وسأكتفي بمثال واحد في هذه العُجالة: (خذ من ضوء سنبلة شعاعاً).

أما إذا أردنا الحديث عن الشام في ديوان (طرائد النور) والأثر النفسي الذي تركه الصراع الدموي، فهذا يحتاج إلى وقفة خاصة، وسأكتفي بقوله:

مَدائنُ الروحِ والرؤيا بَلَتْ جسدا

كُنه التَّشظّيْ وفي أرواحنا انعقدا

 

العدد 1105 - 01/5/2024